إن الله أكرمنا ومنّ علينا بهذه الرسالة الخالدة والدين الشامل الكامل فإنّ من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب العزيز ودلت عليه السنة المطهرة علم أن النبي قد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة على أكمل وجه، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك قد مرض قلبه، وخاسر قد طاش في مهاوي الضلال لبه.إن هذه النعمة من أكبر النعم على هذه الأمّة حيث أكمل الله تعالى لها دينها، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا يحتاجون إلى نبيّ غير نبيهم، ولا يحتاجون إلى شرعة جديدة غير شريعتهم، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأحكام، ذلكم دين الإسلام الشامل الكامل الذي شهد بصفائه وصلاحيته لكل زمان ومكان الأعداء قبل الأصدقاء، والحق ما شهدت به الأعداء.ولذلك لما كان هذا الإسلام بهذا التكامل السامي وهذا الشمول الوافي إذ لم يجعل لأي أحد كائنًا من كان أن يزيد أو يستدرك عليه أو يطلب رضا الله بغير ما شرعه له أو ما سنه له رسوله عليه الصلاة والسلام، لما كان الإسلام كذلك حرم الزيادة على دينه، أو فعل شيء لم يفعله رسول الله ولا صحبه الكرام، وهي البدعة التي جاءت الشريعة بالتحذير منها وبالنهي عنها، فقد كان الإسلام وما زال يحذر أشد التحذير من البدع والمبتدعين، وينهى عن الاختراع في الدين أو فعل عبادة مصطنعة ليس لها مثال سابق في قرون الإسلام الفاضلة، يقول النبي : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي: رد على صاحبها وعلى العامل بها.فالبدعة كما عرفها العلماء هي كل عمل أحدث في الدين يخالف الكتاب والسنة، أو لم يدل عليه الكتاب والسنة، واختراع عمل لم يدل عليه دليل بنية التعبد لله رب العالمين، فمن أحدث أي عمل لم يدل عليه الكتاب والسنة ولم يكن له مثال سابق من مشكاة النبوة فهو رد على صاحبه، ولو كانت هذه الزيادة من عالم أو من حاكم أو من مجتمع أو من فرد أو من أمة أو من جماعة.قال عبدالله بن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)، ورأى أناسًا جالسين يجتمعون بعد الأذان في حلقات ومعهم الحصى، فيذكرون الله مائة مرة وهكذا حتى تقام الصلاة، فقال لهم: (عدوا سيئاتكم، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة)، قالوا: والله ـ يا أبا عبد الرحمن ـ ما أردنا إلا الخير، قال: (كم من مريد للخير لم يصبه).وقد ذكر أهل العلم أسبابًا لانتشار البدع وفشوها بين الناس، منها انتشار الجهل وسكوت أهل العلم، فإن البدعة إذا ظهرت ورآها الناس وسمعوا بها وجب على أهل العلم إنكارها والتحذير منها، وإلا فقد يعجب بها بعض الجهلة أو أهل الأهواء، فتشيع بين الناس حتى تصبح سنة متبعة، فإن البدعة أول ما تظهر تظهر مستغربة مستنكرة مستهجنة، حتى تفشو بين الناس ويشيع أمرها ويستحسنه أصحاب الأهواء والضلال، ثم لا تلبث أن تنتشر انتشار النار في الهشيم أو أشد، ومن هنا جاء التحذير من البدع والتنفير من أصحابها ودعاتها ومروجيها.إن البدعة أعظم ذنبًا وأشد جرمًا من المعصية نفسها، فإن من شرب الخمر أو زنى يوشك أن يتوب ويعلم في قرارة نفسه أنه مذنب عاصي يسأل الله أن يهديه ويرده إليه، بينما صاحب البدعة لا يرى نفسه على منكر، بل يرى نفسه على صواب، بل ويتقرب بهذا العمل لله رب العالمين.