^ تمتد علاقتي بالصحافي والأديب عبدالله العباسي إلى نحو اثنتين وأربعين سنة؛ عندما تعرفت إليه في العام 1970 في أسرة فناني البحرين ليصير بعد حين رئيسها ويسند لي مهام أمانة السر، ثم لنعمل معاً في مسرحية «اليريور» التي كتبها وتم عرضها في النادي الأهلي الذي كان يقع مقابل سينما أوال، ولتتطور علاقتنا بعد قليل فتجمعنا الأنشطة الثقافية التي كان مولعاً بها في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً في إمارتي الشارقة وعجمان. ولعل فترة وجودنا هناك كانت الفرصة الأكبر في تنمية تلك العلاقة الحميمة التي ربطتني به فتطورت حتى صار صديقاً وأخاً.. وأباً. لم يكن العباسي يحمل الضغينة لأحد رغم شراسته؛ فهو شرس في النقاش وفي الدفاع عن أفكاره وقناعاته، وصريح إلى الحد الذي جعل كثيرين يجمعون على أنه يفتقد «الذكاء الاجتماعي»، فلم يكن يعرف من المجاملة إلا القليل، ولم يكن من الذين يتمكنون من كتم ما في داخلهم، وهو في حالته تلك لم يكن يحسب حساب من يتحدث معه فينتقده بشراسة وبوضوح وبصوت قوي امتاز به، ما أدى إلى أن البعض ممن هم في مستوى اجتماعي أعلى اتخذوا منه موقفاً يصل إلى حد النفور أحياناً خشية التعرض للنقد. كان العباسي شرساً في مناقشاته وحواراته مع الآخرين، الصراحة التي كان يمتاز بها وسعت من هامش الذين يقررون أن ينؤوا بأنفسهم بعيداً عن لسانه. لكن ما لم يكن يدركه البعض هو أن العباسي لم يكن عدوانياً، وأن ملاحظاته النقدية كان يريد بها الخير وإن أدت إلى إحراج الآخرين. أما في الحق فلم تكن تأخذه لومة لائم، يقول الكلمة التي يتردد الآخرون عن قولها خوفاً، يقولها بصراحة مبالغ فيها وبقوة! ورغم كل شيء إلا أن الجميع يتفق على أن العباسي كان «فاكهة» المجالس. فوجوده يضفي جواً خاصاً لا يخلو من تعليق ساخر أو نكتة يرويها بأسلوبه، وبالطبع لا يخلو من نقده الذي يراه البعض قاسياً. وهكذا كان مقبولاً ومحبوباً من الجميع؛ خصوصاً في سنواته الأخيرة التي ابتلي فيها بمجموعة من الأمراض التي تكالبت عليه، خاصة مرض السكري، الذي كاد يفقده البصر، وتمكن من إفقاده إحدى قدميه التي أصيبت بالغرغرينا، ثم ليتنقل على كرسي متحرك يستخدمه في الوصول إلى أي مكان يشم منه رائحة الأدب والفن. يوم وفاته قال لي ابنه الأصغر مأمون إنه لم يكن يتوقع أن يشهد يوماً يفارق فيه والده الدنيا. وأضاف وهو يغالب دمعة إن «ضربتين في الراس توجع»، كان يقصد وفاة والدته قبل نحو شهرين من وفاة والده. لكن مأمون لم يكن الوحيد الذي لم يتصور أن العباسي يمكن أن يفارق هذه الدنيا رغم شراسة الأمراض التي أحاطت به، ربما لشخصيته وحضوره والإحساس أنه رغم كل شيء ظل قوياً. عندما لاحظ ابناه الآخران عيسى وخالد تكرر زيارتي لمجلس العزاء قالا لي «كلفت على روحك كثيراً»، فكان جوابي أنه لم يكن مجرد صديق؛ لكنه بالنسبة لي أخ أكبر.. وأب.. ليس هذا كلام عواطف لكنني حقيقة لم أجد في حياتي من ينشغل بوضعي الوظيفي ويسعى إلى تسكيني في وظيفة تناسبني مثلما كان يفعل العباسي، سواءً عندما كنا في الإمارات لأجد نفسي مذيعاً ومقدم برامج في تلفزيون دبي، أو في البحرين بسؤاله الدائم عن وضعي وسعيه واطمئنانه علي وتشجيعي، وهذا ما كان يلاحظه البعض، ولعله هو ما دفع الشاعر والإعلامي حسن كمال الذي التقيته في مجلس العزاء ليعزيني بحرارة.
العباسي.. الشرس الــــذي صــــار أبـــي!
28 مايو 2012