بديع المدني: لا يزال الحديث متواصلاً مع سير السلف الصالح من التابعين وأئمة أهل العلم وموعدنا اليوم مع عالم زمانه والمقتدى به في أوانه، عالم الكوفة وشيخها وحبر أحبار هذه الأمة إنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الذي ولد سنة 97 هـ لبيت علم وفضل فأبوه من كبار الثقات بالكوفة، وإخوته من العلماء، جمع بين العلم والعمل والشجاعة في الجهر بكلمة الحق. قال الخطيب البغدادي: "كان إماماً من أئمة المسلمين، وحصل الإجماع على إمامته دون الحاجة للتزكية، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد”.وعن علم الثوري قال بعضهم بحر لا يُدرك قعره، قال الأوزاعي: لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا والصحة إلا سفيان، وقال ابن المبارك : لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان ، وعن يحيى بن معين قال: ما خالف أحدٌ سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان؛ يقول الحافظ الذهبي صاحب السير: كان سفيان رأساً في الزهد والتأدب والخوف، رأساً في الحفظ ومعرفة الألفاظ، وفي الفقه لا يخاف في الله لومة لائم.ومن مشاهد عبادته وورعه رحمه الله أن قال علي بن فضيل: رأيت سفيان الثوري ساجداً حول البيت، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وقال رجل لـسفيان : أوصني! فقال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها، وعن عطاء الخفاف قال: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً. فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً.أُهدي لسفيان ثوبٌ فرده، فقال له من أهداه: لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده عليّ. قال: لكن أخاك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره. وعن عبدالعزيز القرشي قال: سمعت سفيان يقول: عليك بالزهد يبصّرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك. ومن أقواله رحمه الله التي تكتب بماء الذهب أنه كان يقول: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله، وقال: إن الحديث عز، من أراد به الدنيا فدنيا، ومن أراد به الآخرة فآخرة. وسمعه يحيى يقول أن "عيسى بن مريم عليه السلام " قال: تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والتمسوا رضوانه بالتباعد منهم، قالوا: فمن نجالس؟ قال: من تذكركم بالله رؤيته، ويرغّبكم في الآخرة عمله، ويزيد في علمكم منطقه. وعن حذيفة المرعشي قال: قال سفيان : لئن أخلّف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس. وعن عبدالله بن بشر قال: سمعت الثوري يقول : إنما العلم عندنا الرخص عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه. قال: كتب رجلٌ من إخوان سفيان الثوري إلى سفيان الثوري: أن عظني فأوجز، فكتب إليه: عافانا الله وإياك من السوء كله، يا أخي! إن الدنيا غمها لا يفنى، وفرحها لا يدوم، وفكرها لا ينقضي، فاعمل لنفسك حتى تنجو، ولا تتوانى فتعطب، والسلام.ولذكر محنته رحمه الله شجون حيث مر كسائر الأئمة بمحنة مع المهدي أمير المؤمنين حين أراد أن يستعمله على القضاء فرفض الثوري وظل يتخفى ، ويتنقل من مكان إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى هرباً من المنصب وتبعاته، وروى ابن سعد في الطبقات أن المهدي كتب إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة يطلب منه أن يأتيه بسفيان، فبعث محمد إلى سفيان فأعلمه بذلك، وقال: إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم، وإن كنت لا تريد ذلك فتوار، قال: فتوارى سفيان، حتى هرب إلى البصرة حتى مات قال: ابن سعد في " الطبقات” مرض سفيان الثوري مرضاً شديداً حتى حضره الموت، وعن عبدالرحمن بن مهدي قال: لما مات سفيان أخرجناه من الليل فما أنكرنا الليل من النهار - لعل هذا من كثرة الناس- وكان هذا في أول سنة 161هـ نسأل الله عز وجل أن يرحمه وأن يجزيه خير الجزاء على خدمته للكتاب والسنة .