^   حين تصبح حياة المرء في خطر ويدرك ماهية هذا الخطر ومن أطرافه وماهي تحركات هذه الأطراف وماهو تاريخهم وكيف يفكرون وماهي أهدافهم، لايملك سوى متابعة ومراقبة مواقفهم وتصرفاتهم المختلفة حتى يستطيع حماية نفسه في الوقت المناسب من أي محاولة لمداهمة مباغتة أو طعنة في الظهر لأن نصف خصومنا لا يملكون الشجاعة على المواجهة يقيناً منهم أنهم أجبن من ذلك وأننا الأقدر على الفوز في النهاية! فلا تلم إنساناً في حرصه الذي قد يكون مبالغاً فيه عند تحليل وتفسير خطوات أعدائه! ولا تتهمه بأنه مصاب بالوسواس القهري في خوفه المتواصل من هؤلاء الأعداء! ولا تستخف بطريقة ربطه للأحداث ربطاً قد يبدو غير منطقي في الفترة الحالية ولكن سرعان ما تتضح الرؤية مع مرور الوقت. الشخص المترقب لتحركات عدوه هو أكثر شخص على دراية بتكتيكات الهجوم لخصمه واستراتيجيات المراوغة التي يتبعها! هو أكثر دراية لأنه أصيب بطعنة غدر في الماضي أو عدة طعنات أيقظته من سذاجته الطفولية التي ترى جميع البشر لطفاء! كما إنه على علم أن عدوه لن يهنأ له بال حتى يصل إلى مبتغاه وأنه سيعاود الكرة مراراً حتى يصيبه في مقتل. لذلك، الطعنات المتكررة شكلت خبرات متراكمة تستوجب الحرص في المستقبل -وإن كان مبالغاً فيه- إلا أنه حرص له تبريراته المعقولة نوعاً ما وأولها الخوف من طعنة أخرى قد تكون القاضية!! في الحياة اليومية، الأمر أشبه بكثير بما سبق لكنه يتعدى ذلك بكثير في الحياة السياسية كون السياسة لعبة معقدة مليئة بالقوانين التي تحكمها، ومن يجهل هذه القوانين سيقع بالتأكيد في شراك هذه اللعبة أو سيضيع في أحد دهاليزها! ومن يريد أن يفسرها سيمر بالكثير من المحاولات الفاشلة لتأويل مواقف من يلعب هذه اللعبة وحتى العلاقات التي تربط اللاعبين ببعض! لأنه سيكتشف كماً من التناقضات ومع ذلك اللعبة مستمرة والفهم يستعصي على الكثيرين! باعتقادي أن هذه التناقضات جاءت من الاستراتيجيات المختلفة التي يتبعها السياسيون في التسويق عن أنفسهم وعن مواقفهم ومعتقداتهم وحتى قراراتهم التي قد تتحكم في مصائر شعوب ودول لا تملك سوى الرضوخ لهذه القرارات التي لامفر منها! فعملية التسويق السياسي عبارة عن مجموعة من الأنشطة السياسية التي تسخر العديد من الأدوات اللازمة لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية لتسويق شخصيات، أحزاب، جمعيات، مواقف، قرارات، علاقات وجعلها معروفة أو حتى مقبولة لدى الجماهير المستهدفة من هذه الأنشطة. أبرز الأدوات التي تستخدم في التسويق السياسي هي وسائل الاتصال الجماهيرية مع تسخير لا يستهان به للاتصال الشخصي لما له من دور كبير في تحقيق التأثير المباشر والمساهمة في الإقناع الفوري بالاعتماد على كم التفاعل الذي قد يحدث أثناء التواصل مع الجمهور المستهدف من الاتصال. أهداف المسوقين السياسيين في أي مجتمع وقدرتهم على تحقيق هذه الأهداف تعتمد على مجموعة من المتغيرات منها طبيعة وخصائص المجتمع المستهدف، نوع الجماهير المستهدفة، الموضوع المراد تسويقه، الأدوات الاتصالية المستخدمة في التسويق، نوعية الرسائل الاتصالية ومدى ارتباطها بالموضوع المراد تسويقه، أنشطة سياسية مؤثرة، وجدول زمني واقعي يتناسب مع الأنشطة السياسية، المهارات الاتصالية للمسوق وخبرته في مجال السياسة. المسوق السياسي يحرص دائماً على استخدام التكتيكات الاتصالية بشكل دقيق مع مراعاة وسائل الاتصال التي تتناسب مع الجمهور المسوق له! كما إنه يحرص على صياغة الرسائل الاتصالية المباشرة أحياناً وغير المباشرة في أغلب الأحيان على حسب طبيعة الظروف التي قد تتحكم في مدى قبول الرسائل بشكلها المباشر! لكن هذا الجهد الاتصالي في المجمل يتلقاه الجمهور المستهدف على فترات زمنية مختلفة وبالتدرج الذي يراه المسوق مناسباً لخصائص جمهوره المختلفة وأولها الخصائص النفسية وثانيها الخصائص المتعلقة باتجاهات الجمهور نحو الموضوع المراد تسويقه. خصائص الجمهور المستهدف من الأنشطة السياسية، تلعب دوراً جوهرياً في نجاح عملية التسويق السياسي. فهناك جماهير ُتصنف أنها جماهير عنيدة لا تقبل بسهولة ما تتلقاه من الآخرين مهما كانوا مقنعين،وهي في الغالب تستغرق وقتاً أطول من غيرها لتغيير اتجاهاتها وقناعاتها حول ما ُيراد تسويقه وعلى ذلك فهي تحتاج إلى عدد كبير من الأنشطة السياسية وتنويع مكثف في استخدام الأشكال الاتصالية التي غالباً ما تكون لصيقة بالتسويق السياسي كالإعلان والعلاقات العامة والدعاية. أما الجماهير اللامبالية التي لا ترى أهمية لما يدور في عالم السياسة وما يطرأ عليها من متغييرات، فلها اهتمامات مختلفة في المجالات الحياتية الأخرى، أو قد تكون لها اهتمامات سطحية تشكلت نتيجة لعناصر التنشئة الاجتماعية ! هذا النوع من الجماهير إذا ما تم استهدافه من بعض المسوقين السياسيين فلن يستغرق وقتاً طويلاً في التأثير على اتجاهاته وإكسابها صبغة سياسية. هذه الجماهير يسهل تحريكها يميناً ويساراً لأنها لاتملك القاعدة المعرفية الجيدة لتاريخ المسوق أو ما يحاول التسويق له ! مما قد يشكل خطراً على بعض المجتمعات خصوصاً في حال التسويق لإيدلوجيات تهدد خطر وأمن أفراد المجتمع وتعمل على تمزيق العلاقات التي تربط مكونات المجتمع الواحد، أو تتسبب في التأثير على العلاقات الدولية مع مجتمعات أخرى. في علم الاتصال، يحرص القائم على الاتصال على معرفة وتحديد رغبات الجمهور وتوقعاته من وسائل الاتصال المختلفة ليعمل على كتابة الرسائل الاتصالية التي تتناسب مع هذه الرغبات وتعمل على إشباعها. أما في علم السياسة، فتم مؤخراً الاعتماد بشكل كبيرعلى هذا الجزء من نظرية (الاستخدامات والإشباعات) لتسويق اللامنطق بين مختلف الجماهير لا لإشباع رغبات الجماهير في معرفة كل ما يدور في السياق السياسي وتلبية حاجته الإنسانية بالإحساس بالأمان، وإنما لإيقاف حالة الاستنفار في كل الحواس لإدراك وترقب ما قد يحدث الأيام القادمة، واستبدالها بحالة تقبل لما يرفضه العقل واستيعاب المواقف المتضاربة والتصريحات التي ترتفع وتنزل حدتها في أوقات متقاربة. تسويق اللامنطق في السياسة، القصد منه إما إلهاء الجمهور عن ما هو أكبر مما يحدث أمامه، أو تخديره للرجوع إلى حالة اللامبالاة ، أو تقبل قرارات يرفضها بشكل قاطع. هي باختصار، انتزاع العدسة المكبرة ! آخر السطور.. أسوأ العقول عقل يرفض كل شيء أو يقبل كل شيء.. يذكرني بمحطات القطارات باب للدخول وباب للخروج ولا يبقى فيها أحد.. (شكسبير).