لا نزال ننهل من معين هؤلاء الأئمة الكبار الذين خلّد التاريخ ذكرهم بعلمهم وعملهم ، وعالمنا اليوم جمع العلم والفقه والأدب والزهد والشجاعة هو الإمام عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي أبو عبدالرحمن، وهو من تابعي التابعين. ولد لبيت زهد فوالده كان ورعاً تقياً معروف بذلك ، وكانت ولادته سنة 118هـ بمدينة "مرو” كبرى مدن خرسان ثم رحل ابن المبارك لطلب العلم في جميع الأمصار ، من اليمن في جنوباً إلى الشام شمال. قال أحمد بن حنبل : لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه .وكان ابن المبارك رحمه الله بحر متنوع من العلوم ، وكان يقول : ما أودعت قلبي شيئاً قط فخانني. وعن تبحره في علم الحديث فحدث ولا حرج ، فكان أصحاب الحديث في الكوفة إذا تشاجروا في الحديث قالوا : مروا بنا إلى هذا الطبيب ، حتى نسأله يعنون عبد الله بن المبارك. قال سفيان الثوري إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبدالله بن المبارك. قال النسائي : لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك ولا أعلى منه ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه ، وقال الذهبي : هو شيخ الإسلام فخر المجاهدين ، قدوة الزاهدين ، صاحب التصانيف النافعة . وقال أيضاً: والله إني لأحبه في الله وأرجو الخير بحبه لما منحه الله من التقوى والعبادة والإخلاص والجهاد وسعة العلم والإتقان والمواساة والصفات الحميدة ؛ ويُحكى أن هارون الرشيد أخذ زنديقاً فأمر بضرب عنقه ، فقال له الزنديق : لم تضرب عنقي ؟ قال له : أريح العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على الرسول محمد . قال له الرشيد : فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبدالله بن المبارك ينخلانها نخلاً فيخرجانها حرفاً حرفاً.كان ابن المبارك رجلاً متواضعاً، لا يري في نفسه الفضل على أحد. سُئل ابن المبارك عن العُجب فقال : أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك . وسئل عن مسألة في المسجد الحرام فجعل يقول : مثلي يفتي في المسجد الحرام ؟؟ وهو القائل " أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم”. كان رحمه الله كثير الصلاة والصيام ، ذو عبادة متواصلة في الليل والنهار. وكان ابن المبارك من أكبرالمجاهدين في سبيل الله ، وكان يضرب به المثل في الشجاعة والبطولة. وعن عبد الله بن سنان قال : كنت مع ابن المبارك بطرسوس فصاح الناس : النفير ، فخرج ابن المبارك والناس ، فلما اصطف الناس خرج رومي ، فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل ، فقتله ، حتى قتل ستاً من المسلمين ، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ، ولا يخرج إليه أحد ، فالتفت إلى ابن المبارك ، فقال : يا فلان ، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته ، وبرز للرومي فقتله ، وطلب المبارزة ، فبرز له رومي آخر فقتله ، حتى قتل ابن المبارك ستة من الروم. كان ابن المبارك رحمه الله من أثبت الناس في السنة ، ولهذا قال الأسود بن سالم : إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك ، فاتهمه على الإسلام . وكان معروف بالكرم فكان يخصص مائة ألف درهم في كل عام ينفقها في أهل العبادة والزهد والعلم ، سُئل ابن المبارك : ما خير ما أعطي الإنسان ؟؟ قال : غريزة عقل . قيل : فإن لم يكن ؟ قال : حسن أدب . قيل : فإن لم يكن ؟ قال : أخ شقيق يستشيره . قيل : فإن لم يكن ؟ قال : صمت طويل . قيل : فإن لم يكن ؟ قال : موت عاجل. توفي ابن المبارك رحمه الله سنة 118هـ ، وله من العمر ثلاث وستون سنة ، ورُوي أنه لما بلغ الرشيد موت ابن المبارك قال : مات سيد العلماء ، ثم جلس للعزاء، وعن محمد بن يوسف الفريابي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد مر به سفيان الثوري ، قلت : يا رسول الله مات مِسعر بن كدام . قال : نعم وتباشر بروحه أهل السماء . قلت : يا رسول الله ما فعل حماد بن سلمة ؟؟ قال : مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً . قلت : يا رسول ما فعل حماد بن زيد ؟ قال : مع المقربين . قلت : يا رسول الله ما فعل عبد الله بن المبارك ؟ فقال : هيهات هيهات !! ذاك أرفع من هؤلاء . رحم الله الإمام ابن المبارك رحمة واسعة.بديع المدني