كتب - عبدالله الذوادي:ياسين محمد الحسيني رجل من رجالات الحورة البسطاء، شقوا طريق حياتهم بالكفاح من أجل لقمة العيش بداية بالعمل في البحر بين الغوص والصيد إلى العمل في حقل النفط، إلى العودة إلى البحر بعد سن التقاعد. ورغم طول مدة عمل هؤلاء في شركة نفط البحرين وتقاعدهم من بابكو، لم يخرجوا بمدخرات تحميهم من التغلب على الحياة المعيشية لهم ولأسرهم نظراً لضآلة أجورهم، حيث أجبرتهم الظروف على النزول مرة أخرى إلى البحر وأهواله، لكن هذه المرة ليس إلى الغوص الذي ولى زمنه وانتهى، إنما إلى الصيد بما يجود به البحر ولو لسد الرمق. رغم أن البحر لم يعد سخياً بسبب دفن معظم سواحل البحرين. بعد إحالة ذلك الرعيل إلى التقاعد لم يكن هناك ضمان اجتماعي يتمثل في صناديق التقاعد كما هو الحال الآن، إنما كان المتقاعد يتم عبر ما دفعه العامل من اشتراكات لدى الشركة، زائداً ما تضيفه الشركة من نسبة إلى اشتراكه، فيحصل شهرياً على مبلغ لا يسد رمقه وأسرته، فمن هؤلاء من عاد إلى البحر ومنهم من عمل فراشاً في بعض المدارس والمؤسسات، ومنهم من لقى ربه بعد يوم واحد فقط من إحالته إلى التقاعد.يتيم الأم تربى المرحوم ياسين محمد الحسيني يتيماً بعد وفاة والدته، فتزوج والده امرأة فاضلة هي شقيقة المرحوم المطوع إبراهيم الحسيني التي أنجبت ثلاث بنات توفيت إحداهن في النفاس، وحين كبر ياسين التحق بمهنة أجداده، بعد أن ختم القرآن الكريم على يد المطوع إبراهيم الحسيني الذي كان يسميه خالي الملا إبراهيم، لكون زوجة والده شقيقة الملا إبراهيم الحسيني، وكان غواصاً ماهراً يتميز بقامته الطويلة، وبعد تشوقه لمولود عجزت زوجته الإنجاب له طلقها وتزوج بأخرى من أسرة كريمة من المحرق من عائلة البودهيش التي صاهرها من قبل. وكانت زوجة المرحوم ياسين نورة امرأة فاضلة محبة للجيران ربطتنا بهم علاقات طيبة، وكانت صديقة وفية لزوجة خالي سالم بن درويش الذوادي التي ربتني وهي بمثابة والدتي. هذه المرأة الفاضلة لم يسعفها الحظ لتلد للمرحوم ياسين أبناء فكلما حملت يسقط الجنين إما مكتملاً أو غير مكتمل، لكن طيب المعشر جعل المرحوم ياسين يتمسك بها إلى أن انتقلت إلى جوار ربها فحزن عليها حزناً شديداً، بل ومرض بسببها واعتلت صحته فنصحه الأطباء بالزواج مرة أخرى للتخلص من الوحدة القاتلة التي كان يعيشها، فتزوج من امرأة فاضلة من الحورة أم عبدالعزيز الشملان أحد أبناء الحورة أطال الله في عمره، وعاش بقية حياته معها لكن حياته معها لم تستمر، حيث لقي ربه بعد مرض عضال ألم به. ونذكر هنا إحسان المرحوم عمرو الرميحي الذي تكفل بعلاجه. شاعر نبطيللمرحوم ياسين حكايات جميلة، كان ينظم الشعر النبطي بجزالة وعلى السجية ولا يفوته مشهد إلا وينظم فيه قصيدة. وقد اعتاد كتابة القصائد الوطنية بمناسبة عيد جلوس صاحب العَظَمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة والعيد الوطني وقبله صاحب العَظَمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وكان الديوان الأميري وقتها يكرمه مادياً على إهداءاته الشعرية، كما كان مؤلف قصائد لبعض المواقف التي يشاهدها في البحرين أو أثناء السفر، وقد وصلت قصائده إلى بعض أمراء دول الخليج وبالخصوص دولة قطر الشقيقة، حيث كان يكرم من قبل أميرها السابق الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني وكان مغرماً بالجمال فيؤلف القصائد المادحة. وأذكر أنه أعجب بالفنانة سهام رفقي في الأربعينيات بطلة فلم "البريمو” حيث غنت "يا بوالزلف” و«يا أم العباية” وسواها من أغان، فأنشدها قصيدة مطلعها: "سهام رفقي لج العز والنصر.. بنيتي لجاً في قلبي قصر”. وقد نشرت قصيدته في مجلة "الكواكب” وأرسل القصيدة إلى مجلة الكواكب المشهورة في ذلك الزمان المعنية بنشر أخبار نجوم السينما والغناء، وأخذ يشتري أعداد المجلة بانتظام ليرى نشر قصيدته، وبعد فترة طويلة وتردده على مكتبة إبراهيم عبيد في شارع باب البحرين، الذي كان يسمى شارع (برت) نشرت المجلة مطلع القصيدة المذكورة أعلاه.لقد حاولت جاهداً أن أحصل على بعض قصائده لكن لم أفلح، وكنت أكتب له بعض القصائد التي يرسلها إلى الديوان الأميري، وتذاع من إذاعة البحرين مع قصائد بعض الشعراء. وكان المرحوم أحمد بن ناصر العسومي يكتب له معظم قصائده التي ينشرها أو يرسلها إلى الديوان الأميري وإلى حكام دول الخليج، ولم يكن يحتفظ بنسخ منها للأسف، وحاولت الاتصال ببعض الأشخاص في الحورة الذين كانوا يحفظون شيئاً من قصائده، فوفقت في الحصول على شذرات من تلك القصائد. كما إن عدداً من أبناء الحورة يحفظون عدداً من مطالع قصائده، حيث تعذر الحصول على قصيدة واحدة مكتملة لوفاة معظم من كان يكتب قصائده، كما إنه لم يكن يحتفظ بنسخ منها، حتى إذاعة البحرين لم تحتفظ بتلك القصائد التي كانت تذيعها له ولسواه في المناسبات الوطنية، وكانت تمحوها بمجرد إذاعتها.من قصائد ياسيناتصلت ببعض الأخوة من أبناء الحورة فزودوني بشذرات من بعض قصائده. فالأخ جاسم محمد علي صليبيخ يحفظ له مطلع قصيدة كتبها له ويقول فيها عن عين هرته المشهورة:«محملي يا بوعلي خِطَفْ ودَمْ بين هرته وعرش أم الحصماعتلاه الموج من سدُر وتُفَرومن كثر الشدات صابني قهر”. أما الأخ عبدالوهاب بن ناصر العسومي، فيذكر له مطلع قصيدتين يقول في الأولى:«تاه الفكر يا ناس وازيت محتار من ديرتن عزت أجانبه وأهـل الكـرم والجـود نامت شواربه”. أما القصيدة الثانية فيقول فيها: «دن القلم هات لـدواهباسطر بيوت من ضمير مصفاه”. أما الأخ يوسف أحمد ثاني المريخي فيحفظ هذين البيتين من قصائد المرحوم عن حفلة زواج، يقول الحاج ياسين:«خوش حفلة وخوش فرشةعَبَّالْنه ْ فيها سَمْت كرشهأثاريه حبة صلوم في بكشهوقطرة شربت في غرشه”. ويحفظ الأخ محمد بن إبراهيم بن خلف (بونبيل) هذه الأبيات من قصائد المرحوم: «إبلادْنه ما بْهـــــــا غِيـــرهْ مدَّنَتْ ناسٍ كثيرهْعَزَّتْ الأنـــذال ويـــــــلاهوأهلها صارت كسِيرةوين أهلهــــا الأوليــــــــه أم النفوس الغنيةمن الألف ما شوف مِيَّهوباصوت يا الله السِّتيرة”. وفي مطلع لقصيدة أخرى يقول ياسين:«مكينة القلب إِفْترَّتْ لوالبهاوإهتم قلبي غير واجبهاحسبي علي بَلْــدِةٍ ذَلَّـــتْ أَهَلْهِ وعزت أجانِبْــــهِ”نوادر جميلةللمرحوم حكايات ونوادر جميلة وطريفة، منها أنه عندما ضعف بصره استخدم النظارة، وقد اعتاد من هم في سنه أن يجلسوا عصراً عند السيف، إما بالقرب من بيت بوجندل المحاذي للبحر والذي يفصله عن المحرق، وإما عند بيوت أبناء جبر صالح وسند وعبدالله وعيد أو عند بيت الموسى، يصلحون شباك صيدهم ويتجاذبون أطراف الحديث ويتناولون التمر أو الرطب والقهوة، عندما استخدم الحاج ياسين النظارة وكان يشارك الجالسين مجلسهم قال لهم: هل ترون ذلك الرجل الذي يمشي على ساحل المحرق وفي جيب ثوبه في الصدر علبة سجاير "لكي سترايك”، فعجب الحضور ومنهم من صدق ومنهم من ابتسم ساخراً ومنهم من صدق وذهب في اليوم التالي لتركيب نظارة ليرى أهل المحرق وهم يمشون على سواحل مدينتهم المحرق الشامخة.أما الحكاية الثانية، فبسبب حرمانه من الذرية تولع بتربية إحدى الببغاوات (بيبي متوه) كان يحملها على يديه في مشاويره ويحضر إلى دكان جمعه الشخصي وهي إما على كتفه أو على ذراعه، وكان سعيداً بها ولاشك أنه نظم قصيدة لمعشوقته الببغاء وضاعت كما ضاع غيرها.وحكاية أخرى كادت تلقيه في السجن لولا رحمة الله، فقد سافر وزوجته إلى إحدى دول الخليج وأودع مفتاح بيته إلى إحدى الأسر التي كان يثق بها، وكان ابنهم في إحدى الحركات السياسية، وكانت لديه بعض المنشورات ومسوداتها فوجد أن أضمن مكان لحفظها هو بيت الحاج ياسين، حيث شعر بتفتيش بيته فوضعوا المنشورات والمسودات في درام الرز في بيت الحاج ياسين، واستمر ذلك لأيام، وبعد ذلك نقلت تلك الأوراق من بيت المرحوم ياسين وفي اليوم التالي جاءت شرطة المباحث ليفتشوا بيت المرحوم ياسين وكأن وشاية حدثت، لكن الله سلم فنجا المسكين من الاعتقال وهو الذي لم يكن له ناقة ولا جمل في أمور السياسة.أما الحكاية الأخيرة التي تمثل بعداً إنسانياً، أنه سافر إلى الهند على السفينة داره التي تعرضت للانفجار في الخليج العربي في شهر ديسمبر لعام 1959م وغرق الكثيرون من ركابها لكن الحاج ياسين الماهر في أمور البحر والغوص، استطاع أن ينجو بنفسه ووجد طفلاً فقد والده فحمله على ظهره وسبح به إلى بر دبي، وكانت أسرة الطفل قد فقدت الأمل في العثور على ابنها، وبعد فترة عاد المرحوم ياسين إلى البحرين ومعه الطفل، فأخذه إلى أسرته بيت المرحوم محمد سعيد الأفغاني، ولاشك أن ذلك الطفل قد أصبح رجلاً الآن، ففرحت الأسرة بعودة طفلها وشكرت للحاج ياسين ونشأت علاقات صداقة بينه وبين الأسرة. كان الحاج ياسين يشاركنا الغبقات في رمضان واحتفالات الفريق بالفوز في المباريات وفي الأعراس وفي الأحزان. هذا هو ياسين محمد الحسيني رجل من رجالات الحورة الأشاوس، كان تقياً لا تفوته صلاة الجماعة في مسجد الملا إبراهيم الحسيني، يشارك الشيوخ والشباب، محبوباً من الجميع، رحل عن دنيانا ولم يترك له خلفاً يحمل اسمه، لكننا أبناء الحورة نحمل اسم عمنا الحاج ياسين بن محمد الحسيني، نراه في أزقة الحورة من بيته إلى المسجد أو إلى دكان جمعة الشخصي وهو يحمل ببغاته على كتفه أو على ذراعه ينشد القصائد ينشرها مع أشعة شمس كل صباح تصدح في حواري الحورة لتحكي قصة الحاج ياسين بن محمد الحسيني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.هذا وقد توفي الحاج ياسين محمد الحسيني في شهر يونيو من العام 1975م بالمستشفى الأمريكي بعد صراع طويل مع المرض، وقد حزن أهل الحورة جميعاً عليه وفقدوا مشاويره في أزقة الحورة بقامته الطويلة، وهو يردد القصائد في كل مناسبة.