^ المناطق السكنية الجديدة الصحية الآمنة البعيدة عن الضجيج والزحمة هي أحد الضرائب الحياتية التي يدفعها الإنسان من أجل التوسع في مساحة السكن، والراحة في غرف نوم أو المعيشة أكثر رفاهية من البيت القديم؛ إلا أن السكن الجديد يأخذ جزءاً كبيراً من حياة الإنسان الاجتماعية، بل ربما يساهم في إنهائها. وحدث ذلك منذ إنشاء أول المدن السكنية في البحرين، أعني مدينة عيسى في أواخر الستينات من القرن الماضي، حيث عايشنا تفكك هذه العلاقة، فزيارة واحدة لأحد الأصدقاء في المدينة كانت تأخذ منا حوالي الثلاث ساعات، خصوصاً أن الباصات في تلك الفترة لم تكن مهيأة لمثل هذه المسافات، والعكس صحيح، فالزيارات التي كانت شهرية تحولت إلى نصف سنوية، ثم في المناسبات وبعدها انتهت. وقد عايشت هذه المسألة بعدما انتقلت للسكن في مدينة عيسى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، ورغم الروح الاجتماعية التي أحملها لم أستطع أن أكون علاقة جيرانية حقيقية حتى مع أقرب جار ملاصق بيتي أو مقابل له، ولم يكن بيني وبينهم إلا السلام، كنت أتمنى أن تستطيع بناتي “في” و”فيض” و”فوز” تكوين هذه العلاقات، لكنهن أيضاً كانت علاقتهن مع أبناء وبنات الجيران ليست كما كانت علاقتنا في فريج الفاضل والحورة والفرجان القديمة التي يعرف كل جار تفاصيل كثيرة عن جيرانه ولو كانوا بعيدين عنه. إن عدم القدرة على تشكيل علاقات جيرانية حقيقية وجادة، في تصوري، يعود إلى عدم وجود لغة مشتركة بين السكان القاطنين في المناطق الجديدة الجميلة في الهندسة والبناء، والفاقدة لدفء العلاقات الاجتماعية الراقية. وأنا في المطار مرافقاً محمد وأحمد خليل بوسيف، أبناء أختي زينب، قاصدين الذهاب إلى الشارقة لتقديم العزاء بوفاة منى ابنة أختي حليمة، التقيت الأستاذ يوسف حسن العجاجي الذي كان هو الآخر في إحدى زياراته للشارقة، يوسف العجاجي ابن فريج الفاضل عرفته في أواخر الخمسينات، كنت في الثاني ابتدائي / التحضيري، وهو شاب في بداية المراهقة، كان قارئاً نهماً في الوقت الذي كنا نحن الصغار نتهجى الأبجدية من خلال أوراق الجرائد المرمية في الطريق أو عبر متابعة قراءة لافتات الدكاكين والمتاجر. يوسف العجاجي واحد الشخصيات الذي أثرت في تجربتي الحياتية وأثرتها، فقد كان يدافع عني ضد مضايقات من هم أكبر سناً، حينما كنت أبيع في دكان يوسفووه العمي (يوسف قاسم محمود) المقابل لمدرسة عائشة أم المؤمنين، وهو أحد الذين شجعوني على قراءة القصص الإنجليزية وساعدني في ترجمة كتاب (رباعيات ملاوية) الذي يحتوي 150 رباعية مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، عملت على ترجمتها ونشرت حوالي 35 منها في الصحف المحلية والخليجية. ونحن في قاعة المغادرة ننتظر النداء الأخير للصعود إلى الطائرة تحدثنا، يوسف وأنا، عن فريج الفاضل والأخطاء التي يقع فيها من يكتبون عن بيوتات الفريج والصور المغلوطة التي يكتب عليها البعض أسماء لا تمت لها بصلة، وعرجنا في حديثنا على العلاقات الاجتماعية وكيفية العلاقة بين الجيران، ومن ثم تأثير السكن في المناطق الجديدة على نفسية الساكنين وعدم القدرة على خلق علاقات حقيقية مع الجيران الجدد، وأثناء الحديث قال العجاجي: “انتهت الجيرة القديمة، جيرة الفرجان، والآن تليفونك هو جارك”. توقفت أمام هذه الجملة، الخلاصة - الحكمة التي قالها شخص خبر الحياة بكل أشكالها وألوانها وعاش في عدة مناطق من العالم. جيرانك، أصدقاؤك، ربعك، أصحابك، زملاء عملك؛ هم الموجودة أرقامهم وأسماؤهم في دليل تليفونك.. هم جيرانك. استوقفتني هذه الكلمة كثيراً، لأنها عبرت بصدق عن طبيعة الحياة التي نعيشها الآن، تعيشها الأجيال الجديدة، التي لا تجد في الأحياء السكنية الجديدة من يشاركها نفس اللغة. هل تعرف الآن لماذا كثير من كبار السن يرفضون الخروج من فرجانهم القديمة وبيوتهم القديمة الآيلة للسقوط، إنهم يخشون من ضياع الروح الحميمة التي تربطهم بالإنسان والمكان في شكل علاقة الجار بالجار.
التليفون.. هو جارك الآن
28 مايو 2012