قصة قصيرة – جعفر الديري: أنا بما أحمل من عار، مثل ضبّ لا يستطيع رفع رأسه من الجحر، خوفاً من أن تناله العقبان. تتحين الفرصة للانقضاض على كتفيّ، دون رأسي، أدعوها إليه فلا ترغب بسوى كتفيّ!. دائرة مغلقة ضاع مفتاحها لا تكف عن هصري، أكاد لا أتبين فيها خيط الفجر الأبيض من الخيط الأسود، وليس لدي سوى قرطين. ما معنى راية ترفرف وسيف يقف منتصباً منها، وطقس جاف لا نسمة هواء فيه، وصوت خيل تنهب الأرض، تصدمني كل ليلة، لأصحو فأجد يديّ يابستين مثل عودين، وعيني زوجة تتحدران حصى أسود تنصبّان علي بخوف لا حد له بسؤال واحد: ماذا فعلت لكي تجازى بكل هذا؟!. مسكينة.. مرغمة كانت على الاقتران بي، دراهم معدودة ولسان أبيها كاد أن يقفز من فيه. قبّحه الله، دخل إلى الدار وخرج يجرّها ودفعها إلي. حمامة بيضاء ناعمة حوّلتها في ظرف شهر واحد إلى بئر جافة. سماء ملبدة بالغيوم، طير تقذفني بكريّات ثلج تخترق رأسي، ظلام يلهب ظهري بألسنة الجحيم، دوائر سود أدخل فيها دون إرادة، وسمّ زعاف يهزم رئتيّ فأتقيأ كبدي، ذئب يركض نحوي ينهشني، أصحو لأجد الدم والقيح ينضحانمن يديّ، وزوجتي تضرب رأسها بالجدار، وتنتفض كالعصفور. لم تع أن يدي تحوّلتا إلى عينين تتفجران بدم ملأ سرير نومي وزحف إلى الأرض. أناديها: "لا تقفي بلهاء هكذا. ناوليني الشمعة والسكّين”. لم يكن لدي خيار، في كل ليلة كنت أضع السكين فوق نار الشمعة حتى تشتد حرارة ثم أجرح يديّ بها. أول ما وعيت حبل يتموّج أمام ناظريّ، يمدّه أبي بين نخلتين في فناء الدار، تقف أمي وسطه باكية مستغيثة، فيما أبي يربط يديها بإحكام، ثم ينهال عليها ضرباً، يتركها معلقة حتى انتصاف الليل. كنت أضحك فرحاً ونشوة، فترمقني بعينين داميتين، حتى إذا أفرج عنها عادت إلي فأوقعت بي ما أوقعه أبي بها. طوال الليل لا أشتهي النوم، كانت نفسي تقفز من جسمي، أراها ترتفع إلى سقف الدار فأنتصب ممسكاً بها. أعود بها فتعاود القفز، وأقضي الليل بطولة مطارداً لها. ذلك شأني وحدي، أما أبي وأمي فلا أتذكر أني رأيتهما يوماً ينامان في الدار. حتى أخي الذي يكبرني بعامين، يظل يرمق الجدار أمامه، باحثاً عن شيء لا تراه عيناي. مات أخي، كانت أمي تصرخ في وجه أبي رغم جبروته: أنت من قتله. تركزت نظرات أبي علي، كأنما اكتشفني لأول مرّة، لكنني كنت مختلفاً، لم أكن قد بلغت الحلم حين سرقت سيفه وأغمدته في صدره. قتلت أبي فلم يعد شيء يخيفني، ذاع الخبر، فتجنبني الجميع بمن فيهم أمي، فجأة أصبَحت لا ترى ولا تسمع. أطل الفجر برأسه وأنا دون مأوى. كنت لا أزال أحتال على لقمة عيشي برأس هنا ورأس هناك، بالضرب بالسياط، والصلب على جذوع الأشجار. كنت أخرج لوحدي مشمرّاً عن ساعدي رافعاً مئزري، منطلقاً في الشوارع، لا أقف حتى تكاد نفسي تخرج من فيّ. كانت لعبة تعجبني، أصل إلى ذروة المتعة وأنا مستلق على الرمل بين الحياة والموت، تتراءى لي أشباح كثيرة مختلفة الأشكال والألوان. رأيته أعلى النخلة يرمقني بعيني غراب، حاولت الهرب لكن قدميّ تسمرتا. نزل كما تحط بومة ضخمة، عانقني وشيئاً فشيء أحسست بالحفرة تحت قدميّ تزداد اتساعاً، انتبهت من النوم. كان وراؤه عبداً أسود منتن الرائحة، يعضّ على أسنانه ورغم ذلك عانقته. سخرت من النجوم والأفلاك، انتبذت واياه مكاناً قصياً، ووضعت جمرات خمس في جيب قميصي، أحسست وكأن ساعديّ يذوبان!. فالحلّة التي أرتديها فضفاضة على جسمي، والعصى التي تشبه وجهاً أحرقته بالنار تغيّر لونها، واللقمة التي أحاول أن تلج من فتحة فمي تتحيّر في عنقي، ولا ثقل لساعديّ. حاولت الهرب دون أن أنتبه إلى دود يقتفي خطواتي، أركض محاولاً اللحاق بقافلة أو مزمعاً رمي نفسي في قعر بئر، فيما الدود يزداد جرأة وشراسة. وقفت متعباً عند جدار قديم، فأحسست بالدود للمرة الأولى. كانت عيناه تنفرجان عن غابة لا أشجار فيها، يتقدم بطول جسمي شرها محموماً، تسيّره رغبة في اختراق جلدي. في كل دقيقة تمر كان الدود يتخلق من جديد جنوداً يبحثون عني في كل مكان، لا أرض أمكنني الوقوف عليها، ولا زاوية اختبأت في ظلاها، ولا بيت أشرّع أبوابه لي. وأخيراً تراءى لي كوخ ركلت بابه بضربة واحدة فتهاوى، تطلّعت ناحيتي امرأة، خنقتها دون فرصة للصياح. أصلحت الباب وسددت النوافذ، وانتظرت!.
حبــــــــــل يتمــــــــــوّج بيــــــــــــــن نخلتيــــــــــــــن
23 سبتمبر 2012