^ نحن دائماً مشغولون؛ لدرجة أن الواحد منا لا يملك الوقت لكي يحك رأسه، أفكار تأكل أفكاراً. وهواجس تبلع هواجس أخرى، وحركة لولبية، من فرط اشتغالها الدائم تؤدي في أغلب الأحيان إلى تكلس العظام وآلام في الظهر وتقلصات في الرقبة وتلف في دائرة الأعصاب، لكأنما لو توقفنا بعض اللحظات عن التفكير، طبعاً التفكير في توافه الأمور اليومية والمكررة، سيفوتنا كل ما هو جميل في الحياة وسنخسر الصفقات الكبيرة التي نجريها في حياتنا. في الأسبوع الماضي سافرت للشارقة مع أبناء أختي زينب، أحمد ومحمد أبناء خليل بوسيف، لتقديم العزاء في الفقيدة منى ابنة أختي حليمة، وهناك التقيت بالعائلة الممتدة والمتفرعة في كل أراضي الخليج العربي، في عزاء الراحلة الجميلة منى التقيت بعدة أجيال من الأهل الذين لم ألتق بهم لأكثر من أربعين عاماً أو أكثر، أبناء خالي الذين استوطنوا الإمارات منذ الخمسينات، وأبناء خالتي الذين تركوا البحرين وهم صغار ووصلوا إلى سن التقاعد، بنات عمي اللواتي لم ألتق بهم من قبل ولم أعرف أشكالهن. رغم أن الجميع يعرفونني وذلك لتوافر صوري في الجرائد واللقاءات التلفزيونية، وسمعوا صوتي في الإذاعات. لكنني لا أعرفهم، وأحتاج بعض الوقت للتعرف عليهم وربط وجوهم بأسمائهم، مما دعا بعض الشباب منهم، أولاداً وبنات، إلى اختباري في التعرف عليهم، وكان الأغلب منهم، نساء ورجالاً، بنات وأولاداً، يقولون لي أنا ابن أو ابنة فلانة أو فلان. كأنما الراحلة الشابة منى أرادت برحيلها أن تجمع عائلتها الممتدة في الشارقة أبو ظبي وعجمان والبحرين والكويت وقطر. أرادت أن تقول لهم أنتم عائلة كبيرة، بأمثالكم من العائلات العريقة الممتدة في كل بلدان الخليج العربي تشكلون الوحدة القادمة بين دول هذا الخليج. الراحلة أرادت برحيلها المبكر أن تجمعنا، وعملت على إعادة روح التواصل التي انقطعت بسبب انشغال الأكثرية منا بملاحقة اللقمة، دون أن نعرف أن التواصل هو جزء من تركيبة الإنسان الروحية. منى برحيلها، حيث أدت مهمتها الحياتية وانتهت من دورها المحدد لها في مسرح الحياة، فعلت ما لم تستطع أن تفعله كل العلاقات الأخرى، زيجات أو عزاءات أخرى. ربما شعرت أثناء رحلتها الحياتية أن هناك ثمة شيء ناقص في هذه العائلة الكبيرة الممتدة في كل بقعة أرض عربية في الخليج، وأن هذا الشيء لا بد له أن يسد بصورة أو بأخرى. منى لم تكن شاعرة أو فنانة تشكيلية أو لها صيت أو شهرة، هي فتاة عادية كجميع بنات خلق الله، وإذا كان البعض يرحل دون أن يترك أثراً؛ فإن هذه الفتاة الجميلة استطاعت أن تؤثر على الجميع، فقد اختلطت دموع الحزن على فراقها بدموع المحبة في لقاءات الذين لم يلتقوا من قبل، اللقاءات التي خلقها هذا الرحيل. أعرف الآن أكثر من قبل معنى الموت.. الولادة والموت يعيد الحياة. لذلك في الوقت الذي نتمنى لها الرحمة والمغفرة من الله سبحانه وتعالى؛ نتمنى أن يبقى أثرها الذي تركته لنا وفينا، وفتحت به أبواباً أخرى للتواصل بين أفراد عائلتنا. لمنى رحمة الله ولنا قوة التواصل التي لها أن تزرع الوحدة فينا وفي كل شبر من أراضي الخليج العربية.
الموت يعيد الحياة
28 مايو 2012