^ قبل أكثر من عقد من الزمان التقيت أحد “الأشخاص” في إحدى الندوات الثقافية، كان وقتها يقدم نفسه على أنه “كاتب حر ديمقراطي” دون أن يكون متحزباً. بعد بضعة سنوات التقيته مرة ثانية، وخلال حوار عرضي معه اكتشفت أنه قد تحول من “الديمقراطية المتحررة غير المتحزبة” إلى الانتماء صراحة إلى جمعية سياسية محسوبة على اليسار، فكان ذلك تطوراً طبيعياً في مسار النمو الفكري والسياسي لمن كان فكره على هذا النحو. وثم التقيته مرة ثالثة قبل نحو سنتين في ندوة أخرى، فاكتشفت من طبيعة مداخلاته وتحركاته أنه قد اتجه من “اليسار” إلى اليمين الديني الطائفي، وأنه قد انحاز في النهاية إلى البنى التنظيمية التي تنتمي إلى ما قبل الدولة والحداثة. ورغم هول المفاجأة؛ فقد تفهمت أن الرجل كان يبحث عن ذاته الضائعة في تراكمات الأفكار والاتجاهات، تتقاذفه التيارات والأهواء في معترك أزمة الهوية، ولذلك كان يبدل ملابسه السياسية وفقاً لتقلبات الطقس على ما يبدو. ولم التق الرجل من يومها، إلا أنني سمعت أنه بعيد الأزمة التي عاشتها البحرين قد تحول إلى “ناشط حقوقي” ينشط على كافة الجبهات الداخلية والخارجية من منطلقات دينية، طائفية، يسارية، تجميعاً لما سبق من انتماءات ديمقراطية إنسانية. بعيداً عن حالة التقلب العرضية المنتشرة هذه الأيام على نطاق واسع، ليس بين الهواة المستجدين فحسب، إنما بين بعض النخب أيضاً، فمن النتائج الطبيعية لتقلبات المزاج السياسي والفكري في زمن استشراء الطائفية وانتشار الغوغائية على نطاق واسع، فقد أصبح الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان أشبه بخرافة فوق العادة، لذلك يأتي الحديث عنها -ودون الإحساس بوجود أي خلل في ذلك- انتقائياً، لمجرد تحقيق مآرب ظرفية أو لتغطية الحقائق الملتبسة، وغياب النزعة المبدئية، في حين أن العالم المتقدم قد أجمع منذ قرون على أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هما من خصائص الفكر المدني الحر، وهما ثمرة من ثمار الحداثة، ولا يمكن أن يكونا جزءاً من منظومة فكرية دينية طائفية، كما إن تحقيق الديمقراطية في أي مجتمع يحتاج إلى التشبع بثقافة الحرية والتحرر من القيود المكبلة للفكر والبحث والمعرفة، وهو أمر لا يمكن أن يكون ممكن التحقق في ظل الدولة الدينية، كما يتطلب إرساء دولة القانون والمؤسسات التي تكون فوق الجميع، حيث يأتي احترام القانون في مقدمة الحياة السياسية السليمة التي لا مجال فيها للتهاون أو التنازل أو التسامح مع الفوضى والعبث والتسيب، ودولة المؤسسات تعني بالضرورة مرور كل القضايا الأساسية عبر المؤسسات وحدها، وأن الذي يريد أن يغير التشريع أو يؤثر في السياسات عليه أن يعمل من داخل المؤسسات للتأثير عليها، ويضاف إلى ذلك ضرورة إجماع السلطة والأحزاب والجماعات والجمعيات والشعب على حماية الديمقراطية والالتزام بالقانون، في جميع الأحوال. وعليه فإنه مثلما لا يجوز للسلطة أن تلجأ إلى تجاوز القانون في التعامل مع الناس، فالأحرى بالناس وبالمؤسسات ألا يتجاوزوا هذا القانون، مع ضمان المساواة في تطبيقه، وهو أمر مشترك بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين هذه السلطات مجتمعة وبين الشعب بكل مكوناته وجماعاته وأحزابه وجمعياته، وهو ليس حكراً على أحد دون الآخر، لأنه لا حق بدون واجب. ولا يمكن أن نتحدث عن مجتمع ديمقراطي راسخ دون الإجماع على الحفاظ على المكتسبات الأساسية للوطن، بما فيها المكتسبات السياسية والاقتصادية والعمرانية وغيرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوز في هذا المجال ولا يوجد أي مبرر يمكن أن يسمح لأحد أو جماعة أو حزب بالاعتداء على تلك المكتسبات والإضرار بأمن المواطنين وممتلكاتهم وحقهم في العيش الكريم المستقر. لذلك فإنه في غياب الشراكة الديمقراطية وتحمل النخب السياسية المستنيرة والقيادات الحزبية المدنية مسؤولياتها الكاملة لحماية الديمقراطية والدفاع عنها، سواء ضد تجاوزات السلطة أو ضد تجاوزات الأفراد المصابين بلهواسات التقلب المزاجي، أو تجاوزات الجماعات الطائفية، فإنه لن تكون هنالك ديمقراطية حقيقية على المدى البعيد، فالديمقراطية تعني في النهاية اقتناعاً بجدواها ومحتواها وقبولاً بمتطلباتها ومقتضياتها، وليس القبول الشكلي بها لتحقيق مكتسبات ظرفية لأن الديمقراطية كمشروع متكامل منغرس في الواقع يطرح في جوهره تحديات بالنسبة للجميع وهي تحديات تتجلى في الحاجة إلى تجاوز أشكال المفارقات والازدواجيات المنتشرة عندنا بشكل مرضي، مثل رفض الديمقراطية في الممارسة وقبولها خطابياً بمسميات أخرى، ورفض دخول اللعبة السياسية من أبوابها الشرعية، ومواصلتها وراء الأبواب الخلفية وتحت الأرض وازدواجية في الأقوال والأفعال.
من سجل المضحكات المبكيات
28 مايو 2012