^ من الثوابت ننتقل إلى المتغيرات، مع لفت النظر إلى أن الدعوة إلى التمسك بالثوابت، لا ينطلق من سرمديتها المطلقة، فثباتها، في كل الأحوال، نسبي من ناحية الزمان وحتى المكان أيضاً. أما المتغيرات، فليس هناك ما يمنع من تحولها إلى ثوابت، وخاصة عند المنعطفات الحادة الشبيهة بمرحلة توفر النية لدى قادة دول المجلس الخليجي، للانتقال من مرحلة التعاون، إلى حالة التوحد، وفي ظروف استثنائية كتلك التي تمر بها المنطقة العربية، ومن ضمنها المنطقة الخليجية اليوم. وحدها القوى السياسية المحنكة المتمرسة في العمل السياسي، وقيادته، القادرة على التمييز بين ما هو ثابت وما هو متغير أولاً، وبين انتقال أي منهما إلى خانة الآخر ثانياً وليس أخيراً. أكثر من ذلك، سنجدها في مراحل معينة ترغم الثوابت كي تتحول إلى متغيرات، وتتدخل في صلب هذه الأخيرة كي تنتقل إلى عائلة الأولى، بشكل تدريجي سلس غير مربك لحركتها أو لاتجاهها. تأسيساً على ذلك يمكن سرد أهم العوامل المتغيرة المؤثرة في مسيرة العمل الوحدوي الخليجي في النقاط التالية: 1. تحول إفرازات ثورة الاتصالات والمعلومات، من مجرد ممارسة دور المدون للحدث والناقل له، في هيئة نصية أو مرئية- مسموعة، إلى عامل صانع لذلك الحدث، وجزء من نسيجه الداخلي. فلم تعد مهمة شبكات التواصل الاجتماعي محصورة في توصيل الأحداث أو بثها، بقدر ما باتت قناة اتصال وتواصل تفاعلية وحيوية في آن بين صناع الحدث، ومن ثم قادرة على بنائه، وتحديد اتجاهه، ومتابعة مساراته، لضمان استمرار تقدمها باتجاه الهدف الذي تسعى لتحقيقه، أو التأثير على صيرورته من الداخل، في صالح من يريدونه أو الجهات التي تقف وراءها، والتي ليست بالضرورة أن تكون هي المنخرطة بشكل مباشر في الحدث ذاته. هذه القنوات الطارئة، مهما طال عمر أدائها، تبقى في نهاية الأمر عنصراً غير ثابت، وقابل للتغير، دون التقليل من درجة تأثيراتها، السلبية والإيجابية على حد سواء، في تلك المرحلة المعنية. 2. القوى الاجتماعية التي تصدرت موجة الاضطرابات التي شهدتها بعض دول مجتمع التعاون، والتي تفاوتت من دولة لأخرى من حيث عمرها الزمني، ومدى انتشارها الجغرافي، وراديكالية المطالب التي رفعتها القوى التي كانت تسيّرها، ونسبة المشاركة السكانية في فعالياتها. فكما هو معروف كانت الغالبية العظمى منها من الفئات الشبابية، ذات الخبرة المحدودة في ممارسة دور المعارض (بكسر الراء) سواء في أفقه السياسي، أو في إطاراته التنظيمية. شبابية هذه القوى، قد تمدها بالحماس، وتزودها بالطاقة في الاستمرار النسبي، لكنها لا تستطيع الاستمرار في استقطاب الفئات الاجتماعية الأخرى، كي تنضوي تحت لواء قيادتها، الأمر الذي يجعل منها عنصراً قصير الأجل زمنياً، ويفتقد مقومات المواصلة الواسعة والانتشار اجتماعياً. تؤخذ المقاييس هنا بالمعيار التاريخي لفترات التحول المقصودة. 3. دور التحالفات مع القوى الخارجية في تحديد موازين القوى المحلية. كما أشرنا، يزداد ثقل القوى الخارجية حضوراً في الساحة المحلية الخليجية، جراء الثقل الاقتصادي، وبفضل الموقع الاستراتيجي الذي تحظى به دول مجلس التعاون، في خارطة التحالفات الدولية. ولقد شهدنا في بعض الدول الخارجية، انقلابات غير متوقعة في تلك الموازين المحلية، مصدره تدخل القوى الخارجية، والبعض منها كان سافراً، وبشكل مباشر. الأمر المؤكد، أن هذه القوى، مهما حاولت المد في أجلها، يبقى حضورها متحولاً، ورهناً بعوامل كثيرة ، البعض منها محلي، والآخر له علاقة أيضاً بأوضاع تلك القوى الداخلية الذاتية التي تحد من تلك الاستمرارية، وتضعها بالتالي في خانة المتحول، شاءت تلك القوى أم أبت. 4. العلاقات العربية، ومن ضمنها العلاقات الداخلية بين دول مجلس التعاون ذاته، والتي بغض النظر عن مدى وعمق تأثيراتها، لكنها لا يمكن نقلها إلى فئة الثوابت، لكونها هشة في صمودها، بفضل تفكك العلاقات العربية وخاصة خلال الأعوام الخمسة الماضية من جهة، وجراء تشابك التحالفات المتولدة عنها من جهة ثانية، الأمر الذي يرغمها على البقاء في حالة عدم استقرار مستمرة، تنعكس إيجاباً وحتى سلباً أيضاً، على تطورات الأوضاع في منطقة الخليج العربي، في اتجاه التحول من التعاون إلى الوحدة، أو في الطريق المعاكس لها. وقد ضاعفت رياح “الربيع العربي” التي هبت على المنطقة العربية منذ ما يزيد على العام ونصف العام، من هذه الهشاشة، ومن ثم على قدرة تلك العلاقات على الصمود أمام تحول مثل الذي تشهده دول المجلس الساعية للانتقال من حالة التعاون إلى مرحلة الاتحاد. في ضوء كل ذلك، يمكن أن تسير الدول الخليجية المرحبة بفكرة الانتقال إلى مرحلة التوحد في خطين متوازيين، لكن متكاملين، الأول يتناول معالجة العوامل الثابتة، وهي الاستراتيجية وذات المدى البعيد، والأخرى تقف عند العناصر المتحولة، وتعمل على الاستفادة منها على المدى التكتيكي القصير. على مستوى الثوابت، سنجد أن صلبها يتمحور، أساساً حول عامل واحد فقط، وهو المواطن. فمن أجل ضمان قيام الوحدة، بغض النظر عن شكلها، أو طبيعة هياكلها، أو حتى عدد الدول الخليجية المنضوية تحت رايتها، لا بد أن تكون حماية مصالح المواطن الخليجي، بمفهومها الوطني الشامل، وهمومه بمستواها الفردي المشخصن، وتطلعاته في إطارها الجماعي المجتمعي، حاضرة عند رسم معالم هذه الوحدة، وتحديد أطرها الرئيسة. أسس تلك الحماية التي ليس هناك مجال لزحزحتها من رحم ومن ثم صلب أي مشروع وحدوي خليجي، ينبغي أن تتجاوز القضايا الأمنية، وتكون أكثر شمولية من الإجراءات الاحترازية الضيقة الأفق، كي تنجح في رؤية الصورة الوحدوية كاملة في إطارها السياسي المستقبلي، والاقتصادي التنموي، والاجتماعي الحامي لنسيج مكونات الأمة، والحاضن لتنوعها الإثني والطائفي، بل وحتى العقيدي. فمتى ما تحقق الرضا المتبادل المشوب بثقة مرافقة، بين المواطن والشكل السياسي الموحد، برزت الصعوبات الحقيقة الصعبة أمام القوى التي تحاول أن تهوي بمعاول هدمها لذلك المجتمع، الذي ستجده حينها، يقف في وجهها، ويدافع عن حدوده التي أصبحت حدوداً مقدسة في نظره، ليس من حق أحد تجاوزها. وعلى مستوى المتغيرات، فمن الطبيعي أن تنصهر جوهرياً في بوتقة واحدة تحتضن سياسات السلطة القائمة في سعيها لبناء البنية التحتية وانعكاساتها على البنية الفوقية التي سترسمها اللتين سوف تتحكمان في بناء العلاقات المتوخى قيامها بين مختلف أطراف المجتمع من جهة وبينهم جميعاً ومؤسسات الدولة ومرافقها من جهة ثانية. هذه العلاقة ذات الاتجاه المزدوج بين أطرافها، هي التي ستبني طرق التعامل بين جميع أطياف المجتمع من أفراد ومؤسسات، ومن ثم فهي وحدها الكفيلة بضمان استقرار ذلك المجتمع، وتماسك أفراده، وانتعاش مؤسساته، وبالتالي تحقق رسوخ دعائم وحدته، في وجه أي محاولات تخريب داخلية، أو نوايا غزو خارجية، دون أن يكون ذلك عقبة تقف في وجه ارتقائه السلمي التدريجي نحو مراتب عليا في سلم التطور الذي يسعى جميع المخلصين من أبنائه للوصول إليه
الثوابت والمتغيرات أمام مسيرة الاتحاد الخليجي «2»
28 مايو 2012