^  الذين يحاولون اليوم استبعاد المواطنية كأساس للتعايش والعيش المشترك، يعمدون -لتكريس مصالحهم وتسلطهم على الناس- على المرجعية الطائفية -بكافة ألوانها- فيخوفون الناس من أن يكونوا أفراداً فيقولون لهم مثلاً: “إذا لم تؤمنوا بنا وبمرجعيتنا فإن صلاتكم ومعاشكم ومماتكم كمؤمنين لن تقبل” هكذا هي الأمور إذن!! واليوم حين تبدأ المجتمعات بالتعبير عن نفسها بهويات دينية أو طائفية أو عقيدية فهذا يعني انتهاء الدولة والدخول في النفق المظلم من الانقسامات والصراعات والمواجهات وصناعة الكراهية المنظمة، ومهما بالغنا في الحديث الحوار والتسامح فإننا في ظل هذه البنى الصاعدة نعمّق أسباب التصنيف والتوصيف الفئوي ولن نجد قاعدة للمساواة بين المواطنين على أساس هوياتهم الطائفية الصاعدة في مفارقة عجيبة بين رفع شعارات الدولة المدنية الديمقراطية وبين تكريس الطائفية فكراً وشعاراً وممارسة وانعزالاً وتحالفاً داخلياً وخارجياً. الهوية بطبيعتها ضدّية أو نافية للآخر حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، وحتى وإن كان هذا الآخر شريكاً في الوطن، المخرج الذي وصلت إليه بعض الدول أو أكثرها تقدماً لتجاوز مكوناتها الطائفية والعرقية والمناطقية هو المواطنة كأساس يرتكز إليها التنوّع، يقوم على وفاق اجتماع سياسي على تجاور الهويات بميثاق وطني، شامل، يرتكز إلى “القانون والدستور”، وحده التأسيس على هذا الأساس هو المدخل لتصحيح تظاهرات الفوضى في اجتماعنا السياسي وعوائق تقدمنا الاجتماعي والثقافي. في الخطابات المؤسسة على التمييز والتمايز يتظاهر البعض هذه الأيام، بأنهم دعاة تسامح، فيطرحون هذا التسامح على الأساس الطائفي - الديني التمييزي بين الناس، بعيداً عما يجمعهم، وهو إنسانيتهم التي يفترض بها أن تجمع وتلم شتات الإنسان على أساس من إنسانيته والتحديات إلي تجمع بني البشر على الخير والشر، الحرب والسلم، هم يتحدثون عن تسامح الأديان، بحيث يتعايش المسلمون مع غير المسلمين وتعايش السنّة مع الشيعة، استلهاما مما كان في الماضي، دون الاستلهام مما يجمعهم اليوم تحت مظلة الإنسانية الجامعة، والحاجة إلى التأسيس للمستقبل المشترك، وبالعودة إلى الماضي يتم استبعاد الحاضر واستبعاد المشترك الإنساني الكامن في المساواة والمواطنة، وباستحضار الماضي واستبعاد الحاضر الجامع لا نلغي النزاعات بل نكرّسها لأن الطائفيين (بكافة طوائفهم) ليسوا في الحقيقة ظل الله على الأرض بل هم ظل مصالحهم على البشر وتكريس امتيازاتهم المادية والاجتماعية المعلنة وغير المعلنة، ولذلك فإن الأفق الوحيد المتاح أمامنا كبشر هو أن نحتفظ بإيماننا الحر، بأن نخرجه من لعبة السياسة والسيطرة والمتاجرة، ونخرج الطائفيين من سلطة إيماننا وتسلطهم عليه وتوظيفه لصالحهم ومصالحهم، ولنتحرر بإيماننا الفردي يجب أن نكون مواطنين لا طوائف وقبائل ولا تبعاً للفقهاء المقدسين والمرشدين الدينيين. لقد نجحت الماكنة الطائفية في جعل المجتمع يعيش اليوم بكامل طوائفه وطبقاته الاجتماعية ازدواجية واضحة في مجال الانتماء السياسي على أسس طائفية والانتماء القومي على أسس وطنية، فالعصبية الطائفية وعي موروث من مرحلة ما قبل بناء الدولة الحديثة التي تكتسب شرعيتها لدى مواطنيها من خلال الارتقاء بالانتماءات الموروثة إلى الانتماء الوطني أو القومي، فيتجدد الوعي الطائفي الموروث من خلال النشاطات التي تقوم بها مؤسسات المجتمع الأهلي. والحقيقة أنه لا يمكن إلغاء الطائفية السياسية إلا في إطار إصلاح تدريجي لمعوقات بناء الدولة العصرية غير الطائفية، فإلغاؤها يجب أن يأتي في سياق تطبيق الديمقراطية والليبرالية ومدنية الدولة، إذ كيف تلغى الطائفية السياسية في مجتمع يولّد طوائف وأجيالاً طائفية؟ إن من أولى الواجبات الوطنية اليوم هو تجاوز الطائفية وبناء دولة المؤسسات، والقانون وتعزيز الحكم الرشيد والتنمية المستدامة، عندئذ يأتي إلغاء الطائفية بشكل طبيعي.