^   منذ اندلاع ما أصبح يعرف بحالة “الربيع العربي” التي عصفت بالمنطقة العربية منذ أواخر العام 2010، تصاعدت في الأدبيات السياسية العربية الدعوات المنادية بالكف عن التطرف، والأخذ بالاعتدال والموضوعية، التي استند بعضها إلى خلفيات تاريخية مثل المقولات التي تصف العرب بالوسطية، وتحثهم على الأخذ بمنطلقاتها في سلوكهم التغييري والرجوع إلى أساسياتها في مشروعهم السياسي. هذه الدعوات في مجملها تعبر عن تلمس جماعي بشكل أو بآخر، بدأ يسيطر على الوعي الثقافي العربي، لبروز وربما سيادة مفاهيم وقيم “التطرف” في أنشطة وفعاليات القوى السياسية الداعية للتغيير، وبالتالي ردود فعل الجهات الممسكة بالسلطة حيالها. لم تنطلق تلك الدعوات من الفراغ، ولم تأت أيضاً نتيجة تجليات فلسفية بقدر ما شكلت في جوهرها إفرازاً طبيعياً ومنطقياً لمسارات الصراعات التي عرفتها المنطقة العربية منذ ذلك الحين، والتي ما تزال تداعياتها تسيطر على مسار الأحداث القائمة في دول عربية مثل اليمن وسوريا. يتمظهر التطرف العربي الذي نتحدث عنه في مناحي كثيرة بعضها فكري تحتضنه كتابات وشعارات القوى المتصادمة، والآخر سلوكي يتجسد على أرض الصراع، ويأخذ شكل نزاعات يومية متكررة لم تتوقف منذ ما يزيد على العام بينها، ووصلت كما في ليبيا قبل سقوط نظام القذافي وسوريا اليوم، إلى معارك عسكرية بين جيشين محليين. لهذا التطرف العربي عند طرفي، وربما أطراف الصراع أسبابه ومبرراته التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية: 1. الواقع العربي الساكن الذي مضت عليه فترة طويلة، بالمقياس التاريخي لتطور الشعوب، تزيد على النصف قرن، دون أن تعرف المنطقة العربية، أي شكل نوعي من أشكال التغيير الجوهري المطلوبة، على الصعد كافة، السياسية منها أو الاجتماعية. أدى هذا السكون العربي الاستثنائي، إلى إبراز قصور الأنظمة العربية، بشكل متفاوت بطبيعة الحال، ومن ثم عجزها عن تلبية متطلبات التطور الذي هبت رياحه الموضوعية على المنطقة العربية من جهة، وساهم في غرس بذور الحاجة للإصلاح القائم على التغيير من جهة ثانية. 2. تشابك العلاقات، وتأثيراتها المتبادلة، بين الأوضاع العربية الذاتية الداخلية، والمصالح الموضوعية للقوى الأجنبية الخارجية ذات العلاقات التاريخية مع هذه المنطقة. يعزز من عمق تلك التأثيرات ثلاثة عوامل رئيسة هي: ‌أ. الانتماء الديني الذي يسيطر على غالبية سكان هذه المنطقة، وهو الإسلام، والمسؤولية الأممية السرمدية التي تفرض نفسها على الواقع السياسي في المنطقة، الذي يجعلها في صدام تاريخي لا يتوقف مع قوى عالمية أخرى، بما فيها تلك الغربية، التي لم تتوقف على النظر إلى الدعوة الإسلامية المستمرة، بوصف كونها تحدياً فكرياً لها، ومنافساً سياسياً لنفوذها. أدى ذلك إلى أن يتطور كل ذلك إلى ما أصبح يعرف اليوم بصدام الحضارات، الذي لم يعد محصوراً في المناظرات الفكرية، بل تحول إلى معارك سياسية، وفي حالات معينة عسكرية. ‌ب. الموقع الجغرافي الذي جعل العرب يطلون على أهم المنافذ البرية والبحرية، بل وحتى الجوية، التي تربط بين القارات، ومن ثم بين مراكز الصناعة والتجارة العالمية، والأسواق التي تتوجه لها أو تبحث عن الجديدة منها من جهة، ومتاخمتها لثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، الأمر الذي يضعها في قلب الأحداث التي تعرفها أي من هذه القارات الثلاث، من جهة ثانية. هذا التشابك العربي الدولي الجيو - سياسي، يزج بالمنطقة العربية في صراعات دولية غير مباشرة، قد تبدو غير منطقية في شكلها الخارجي، تنعكس موضوعياً على الأوضاع القائمة فيها، وتؤثر، بالتالي، على مساراتها الحالية وتطوراتها المستقبلية على حد سواء. ‌ج. المصالح الاقتصادية العالمية التي ضاعف من أهميتها منذ القرن العشرين النفط كسلعة استراتيجية عالمية، أرغم الدول الاستعمارية، ومن بعدها الدول الصناعية المتقدمة، على أن تكون طرفاً غير ثانوي، في أية تغييرات يمكن أن تعرفها المنطقة، لانعكاسات تلك التغييرات على مصالح تلك الدول، ومن ثم موازين القوى فيما بينها. ستحافظ المنطقة العربية على هذه الأهمية، التي ربما تتضاعف أيضاً، كما تجمع دراسات استشراف المستقبل خلال الخمسين سنة القادمة كحد أدنى. ولن يزحزحها عن مكانتها الدولية، أية اكتشافات لمواد الوقود البديلة التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام. 3. نمو وعي اجتماعي ديناميكي أفرزته ثورة الاتصالات والمعلومات، التي عززت من ترابط العالم، وفي القلب منه المنطقة العربية، وسارعت من خطوات التأثير المتبادل، ونجحت إلى حد بعيد، في شد انتباه القوى الاجتماعية العربية الشابة، التي لم تعد البنى الثقافية – السياسية القائمة في البلاد العربية قادرة على استيعاب التحولات الفكرية التي زرعتها تلك الثورة، بشكل موضوعي، في وعيها السياسي. المشكل هنا، والذي ساهم، بشكل أو بآخر وإلى حد بعيد، في تشجيع النزعات التطرفية للقوى الشابة التي تبوأت، وخاصة في المراحل المبكرة من هبوب رياح ما يعرف باسم “الربيع العربي”، كونها، أي القوى الشابة، تفتقر إلى التجربة السياسية الضرورية التي يحتاجها مثل هذا التغيير النوعي الجذري، الأمر الذي دفعها نحو اللجوء للتطرف، كحل وحيد، يخفي عجزها الذاتي في غربلة الأمور، والقراءة الناضجة لسيناريوهات الحوار المحتملة، والأخذ بالأفضل منها، والأكثر حظاً في النجاح، لإحداث التغيير المطلوب. 4. فشل دعوات الاعتدال العربية التقليدية الناضجة وذات الخبرة التاريخية التي تمتد لما يزيد على الربع قرن، باختلاف منهاجها الفكرية والسياسية، في تلمس تلك الحاجة الموضوعية للتغيير، ومن ثم مبادرتها لالتقاط الراية، وتقدم الصفوف، يؤهلها لذلك تلك الخبرة الغنية، التي كانت ستحول، إلى درجة كبيرة، دون تفشي تلك الأفكار المتطرفة، وتساهم في عقلنة حركة التغيير، ووضعها على المسار الصحيح الذي يحولها من طريقها المتطرفة الطوباوية، إلى تلك البرغماتية القادرة على قراءة الواقع بشكل أكثر عقلانية، وتشخيص قواه على نحو أدق، ومن ثم قيادة سفينة التغيير إلى بر الأمان الذي ما تزال حركة التغيير العربية تبحث عنه، وفي أمسّ الحاجة إليه. هذه العوامل الموضوعية والذاتية، وربما أخرى غيرها، قادت إلى سيادة الفكر المتطرف، في العديد من البلدان العربية التي عرفت “ الربيع العربي”. لكن لا ينبغي أن يقودنا ذلك إلى نتيجة خاطئة مفادها أن قطار العودة إلى الفكر الوسطي المعتدل قد فات حركة التغيير العربية، فليس هناك من فرص ضائعة في مساعي التغيير في تاريخ الشعوب. فضياع فرصة تولد في أحشائها فرص أخرى يستطيع من يريد التقاطها أن يسارع إلى ذلك، ويمسك بدفة السفين مرة أخرى كي يأخذها نحو الشواطئ الصحيحة التي ينبغي الرسو فيها. مثل هذا الالتقاط، بحاجة إلى قيادة، في صفوف طرفي أو أطراف الصراع، تؤمن صدقاً، بأن التطرف لم يعد نافعاً، على الصعيدين الفكري والممارسة، وأن الاعتدال هو الأفضل، والأقل مجازفة، والأجدى فعلاً، وهو ما يبحث عنه المواطن العربي الذي لم يتردد في تقديم التضحيات من أجل وطن آمن، وشعب سعيد