^   قلت لصديقي ونحن نناقش ما بدأ يظهر في الأفق العربي من سيطرة للتيارات المحافظة العربية الجديدة على الفضاء العام، وما يمكن أن ينجر عن ذلك من تراجعات على صعيد التفتح والحداثة: إن أي نقاش حول الانفتاح والتفتح والمحافظة عندنا يصطدم في الغالب بإشكالية تتعلق بطبيعة الموضوع المطروح في صلب القيم الدينية، حيث يبدو الدفاع عن هذا الموضوع أو ذاك أو الاقتراب منه محرجاً للضمير الديني والأخلاقي عندنا، ويجعل صاحبه في موقع لا يحسد عليه.. قال صاحبي: “إن أصحاب نظرية الانفتاح عندنا خليط من مشارب متناقضة، لا يهتمون بهوية المجتمع بقدر اهتمامهم بمصالح أنانية ولا شك أنك تتذكر الموجات الفكرية المتحررة التي عمّت العالم في القرن الماضي ودعت إلى التمرد على كل القيم السائدة وعملت على اضمحلال القيم الأخلاقية ولكنها انتهت إلى الفشل في النهاية وصولاً إلى نظرية هنتيغتون التي يؤكد فيها أن قيم الحداثة الغربية ليست كونية، وإنما هي مجرد خصوصية غربية، وهي لا تنطبق إلا على بلدان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وعليه لا معنى للجري وراء هذه القيم أو الاعتداد بها..”. قلت: المشكلة ليست في التنظير الفلسفي، ولكنها في حركة التاريخ التي يراد لها أن تعود إلى الوراء، فإذا كان العالم قد حسم العديد من القضايا والمسائل من عدة قرون أو عقود، فإننا كلما اعتقدنا أننا حسمنا موضوعاً وتحركنا إلى الأمام إلا وأعيد البحث فيه من جديد وكأننا في نهاية القرن التاسع عشر، ومن ذلك موضوعات مثل الانفتاح والتسامح وحرية المرأة وحقوقها والاختلاط، حتى إن أحد رجال الدين قد أفتى مؤخراً بهدم الكعبة المشرفة لأنها تتيح الاختلاط بين الرجال والنساء، مع إن هذه الممارسة كانت موجودة منذ بدء الإسلام، وهكذا يبدو أننا مجتمع غير قادر على الحسم والتقدم، ويعيش حالة مفتعلة ومرضية من إشكالية الأصالة والمعاصرة.. وعلى الصعيد المحلي المشكلة تتمثل عندنا في أننا نتجه إلى مزيد من المحافظة والانغلاق في الوقت الذي يتجه فيه المحافظون من حولنا إلى الانفتاح، وتلك مفارقة غريبة ودلالاتها خطيرة ليس على الصعيد الاقتصادي فقط، بل على الصعيد الاجتماعي والثقافي أيضاً. قال صديقي: إنك تهرب من المعالجة الفكرية، فكيف تفسر تراجع الغرب عن موجات الانفتاح التي اكتسحته في القرن الماضي وأصبح يميل اليوم إلى نوع من الانغلاق والحمائية والمحافظة؟ قلت: لا اعتقد بأن الغرب قد تراجع أو يمكن أن يتراجع عن قيم الانفتاح والحداثة والتقدم- بالرغم من التقلبات والأزمات والتحولات الحزبية والسياسية والاقتصادية-، لأن الموضوع عندهم قد تحول إلى نظام حياة، وليس إلى خيار بين الانفتاح والانغلاق، فهذا ليس مطروحاً أصلاً، والاعتقاد بغير ذلك مغالطة لأنفسنا، فعندما نشر فوكوياما نظريته عن نهاية التاريخ- والتي تراجع عن بعض مضامينها مؤخراً- شدد على أن القيم تصنعها الدولة، وأن الدولة موجودة وراسخة في أوروبا منذ العصور الوسطى ومتواليات العصر الحديث، في حين أنها ككيان في بلدان العالم الثالث موجود بشكل ضعيف أو مهزوز أو غير موجودة أصلاً مثلما هو الشأن في بعض بلدان أفريقيا السوداء، فالدولة موجودة بالاسم فقط، ولهذا السبب، فإن أغلب مجتمعات هذه البلدان ضائعة، وأوضاعها متقلبة حتى في مجال القيم، ولذلك يحلم سكان هذه البلدان بالهجرة نحو الغرب للاحتماء بها والاستفادة من نمط الحياة فيها. قال الصديق محتداً: أفهم من كلامك أنك معاد للقيم وأنك تدعو للفوضى والتشبه بالغرب تحت عنوان الانفتاح؟ قلت: أفهم القيم بطريقة مختلفة عن طريقة فهمك، أنت تراها صورة جامدة ثابتة مخصوصة، وأراها كائناً حياً ينمو ويتفاعل ويتطور، القيم مجموعة ما تتعارف عليه سلوكيات وأخلاقيات كل مجتمع من المجتمعات، ويتربى عليها الإنسان باعتبارها من أثمن ما يتعارف عليه المجتمع، ويحترمها الجميع، وربما يشذ عليها البعض، ويتمرد عنها البعض،.. ولكنها في جميع الأحوال تبقى نسبية، وينبغي أن تظل إنسانية قبل كل شيء، إلا أن التقدم الاجتماعي يطّور منظومة القيم نحو الأفضل، وبعكس ذلك فإن التراجع والنكوص يسبب الفوضى التي يصنعها الفوضويون.