الذين واكبوا مسيرة الحكم في إيران بعد سقوط الشاه السابق ومجيء آية الله الخميني إلى السلطة، يعرفون جيداً أن الطبقة الحاكمة الجديدة، اتخذت منذ الأيام الأولى موقفين سياسيين وأيديولوجيين متصادمين، فيما يتصل بالموقف من العرب، الأول ينطلق من موقف عدائي قديم للعرب كأمة لها تاريخها الممتد لما قبل الرسالة الإسلامية السمحاء، ولكنها تحولت بعد نزول الوحي على النبي الكريم (ص) الذي ينتمي إلى أشرف بطون العرب، إلى أمة تحمل رسالة امتزجت فيها تعاليم السماء مع قيم الشهامة والمروءة التي يتصف بها العربي، ووجد المفكرون الفرس في منهاج العداء للعرب ساحة لتوظيف الإسلام وجعله في مواجهة العروبة، فلم يكن مستغربا أن تنطلق الحركات الشعوبية من بلاد فارس، مغلفة بشعارات إسلامية، هدفها الإساءة إلى العروبة والإسلام معاً، حتى بات الحديث عن جميع الانتماءات القومية ممكناً ومتاحاً، ويورد كدليل على التنوع والثراء الثقافي في حومة الإسلام، إلا إذا كان الحديث عن الأمة العربية، فإن الأمر سيبدو على ما يقول الشعوبيون، عودة إلى الجاهلية التي جاء الإسلام لنسفها من ركائزها، وربما تمكن منظرو الفكر الشعوبي من إلحاق إساءة بمفاهيم الإسلام، ولكنهم لم يتمكنوا من النيل من العروبة التي كانت تتألق كلما تعرضت للفتن الساعية إلى شيطنتها، وإظهارها بوجه عنصري ليس فيها. أضروا بالفلسطينيين ولم يشفع للأمة العربية لدى الفرس خاصة الذين يطرحون أنفسهم كمدافعين عن الإسلام، أنها هي التي نقلت رسالة الإسلام إلى سائر أرجاء المعمورة، ونقلت معظم شعوب المنطقة من ظلمات الشرك وعبادة النار والأوثان، إلى نور التوحيد، إذ ظل الزعماء الإيرانيون الجدد يسمون العرب بالأعراب، تأسيساً على ما ورد في سورة التوبة من وصف للأعراب من أنهم (أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله)، أو (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر)، مع ما في هذا الموقف من تحامل على العرب، ظل صفة يحتكرها الفرس لأنفسهم من دون سائر الأمم التي دخلت الإسلام طواعية وعن يقين، ولكن الفرس الذين تستنهض فيهم هزيمتهم في معركة القادسية، التي قوضت أركان الإمبراطورية الساسانية الفارسية، جميع عوامل الكراهية المخبوءة في أعماق النفوس المنكسرة العين والأنف واللسان، كان بإمكان الراصد تلمس غاطسها المليء بذكريات الانكسار النفسي والعسكري وزوال المجد القديم الذي اعتمد على عبادة النار، عند أول ملامسة ميدانية أو حوار فكري مع النخب المثقفة في إيران، اليوم والبارحة وغداً. أما الموقف الثاني والمتصادم تماماً مع الموقف الأول، فهو تبني موقف معلن بتأييد إيران للقضية الفلسطينية، بالغت طهران في تصوير حسناته وإيجابياته على هذه القضية وتلقفه وكلاء إيران في المنطقة، وكأن هذا الموقف هو الوحيد الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث وأعطاها زخمها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، عندما أغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران وسلمته إلى منظمة التحرير الفلسطينية، في محاولة لإدخال أنها اتخذت هذا القرار دعما للقضية الفلسطينية في روع متابعي الملف الفلسطيني، وليس رداً على التعاون الذي كان قائماً بين السافاك الإيراني والموساد الإسرائيلي في عهد الشاه، فالزعامة الإيرانية قامت بعملية استثمار سياسي، وجدت فيها فرصة كسب عالية المردود على مستوى الشارع العربي المعبأ بالتأييد للقضية الفلسطينية، ولو أن المراقبين المحايدين يتابعون حجم الضرر الذي لحق بالقضية الفلسطينية منذ أن أعلنت إيران وقوفها إلى جانبها في المحافل الدولية، وخاصة ربط حركة المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، لوجدوا أن الضرر الناتج عن الوقوف المعلن من جانب إلى صف المقاومة الفلسطينية، أكبر بكثير من المنافع التي تحققت لها. لا نريد أن نرى إيران قوية فماذا جرى على المسرح السياسي الإيراني منذ العام 1979 وحتى اليوم، كي تظهر لغة جديدة في الخطاب السياسي الصادر عن الزعامة المذهبية في إيران؟ وكم من الزمن احتاجه الولي الفقيه كي يرى في العرب وجهاً مغايراً للصفة التي تكرست في بلاد فارس منذ أربعة عشر قرناً، أهي قناعة جديدة وصل إليها خامنئي من معايشة فكرية وميدانية؟ أم هي التقية السياسية الجديدة والمعبرة عن قراءة نفعية، بأن العراق تحت حكمه الحالي والذي أصبح جزءاً من المجهود الحربي الإيراني في جبهة المواجهة مع العرب، يحتاج إلى إطراء ليس لأنه يستحقه، وإنما لأن متطلبات المعركة تقتضي توجيه مثل رسائل المخادعة التي طرحها علي خامنئي أثناء استقباله نوري المالكي في طهران، فقال له : (هناك أطراف تحاول جاهدة الإيحاء بأن العراق يقف خارج العالم العربي، لكن القمة العربية في بغداد وضعت العراق في رأس الجامعة العربية، ورئيس الوزراء العراقي رئيساً لهذه الجامعة). إن الطرف الوحيد الذي ظل مصراً على أن العراق كان يقف خارج العالم العربي، ليس بحكم الوقائع وإنما من منطلق الأمنيات، هو إيران نفسها، والقمة العربية التي تحتفل الزعامة الإيرانية بانعقادها في بغداد، ليست هي التي أكدت انتماء العراق العربي، ولن يعدّ العراقيون أنفسهم مدينين لإيران لأنها استبدلت جلدها وغيرت خطابها المرحلي تجاه ملف القمة الذي مازال محل خلاف على المستويات كلها، فإيران حينما باركت للمالكي عقد القمة في بغداد فإنها لم تكن تريد أن تستغل الظرف لغسل ذنوبها وتتوب عما ارتكبته من آثام في جميع الساحات العربية، وأكثرها اصطباغاً بلون الدم كانت الساحة العراقية، بل كانت تريد قيام العراق بلونه الجديد وطبقته الحاكمة، أن يجلب إليها الدول العربية طائعة الواحدة تلو الأخرى، شريطة أن تأتي إلى طهران معترفة بخطايا حتى لم ترتكبها، وتقر بصواب المواقف الإيرانية منذ وصول الخميني للحكم وحتى اليوم، وهنا تكمن مفارقة تحول نبرة خامنئي الذي ينتمي إلى جيل ينظر إلى العرب كبدوٍ متخلفين ومتعصبين لانتمائهم، إلى الإقرار بأن العراق قطعة من العالم العربي، على حد تعبيره الذي لم يشأ مخالفة دستور عام 2005 والذي عدّ الشعب العربي في العراق من ضمن العالم العربي وهو عضو مؤسس للجامعة العربية. وفي مفارقة أخرى قال خامنئي: (إن بعضهم لا يروقه أن يشاهد العراق قوياً)، ولا أحد من المهتمين بملف العلاقات العراقية الإيرانية، يرى طرفاً حريصاً على ضعف العراق كإيران، أو طرفاً حريصاً على ضعف إيران كالعراق، وكي أقطع حبال التساؤل، فمن حقي أن أقول إنني أتطلع أن يصدر قرار من أي طرف كان، بنزع أسلحة إيران كلها بحيث لا تبقي لها حتى سكاكين المطبخ، فهذه طبيعة الأشياء في الخارطة الاستراتيجية لبلدين متجاورين، بينهما هذا الخزين الهائل من التجارب المرة والتي خلفت وراءها قدراً غير متصور من الكراهية والضغينة، والذي عجزت جميع الاتفاقيات عن تخفيف حدته، فالعراق القوي هو وحده القادر على حماية نفسه من نوايا إيران ورد المشروع الإيراني إلى داخل الحدود الدولية، أما ما زعمه خامنئي فهو أمر مثير للدهشة السلبية، ولا يليق برجل يضع فوق رأسه عمامة أن يكذب كذبة بهذا الحجم. المالكي من جانبه عندما حمل المشروع الأمريكي حول البرنامج النووي الإيراني، إلى خامنئي ونجاد ورحيمي وجليلي، أراد من خلال دعوته إلى عقد الجولة الجديدة لمباحثات إيران مع 5 +1 في بغداد، ضرب عشرة عصافير بحجر واحد، ربما في مقدمتها مواجهة النفوذ التركي المتزايد، ليلتقي بذلك مع رغبة إسرائيلية ملحة في تحجيم الدور التركي المتعاظم في المنطقة، كما إن تحرك المالكي الذي تم بإشارات إيرانية، وموافقات أمريكية، واستغل حالة الفراغ السياسي الناجمة عن مخلفات الربيع العربي، وتحريك إيران لأدواتها الداخلية في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية، جاء تعبيراً عن رغبة جارفة في الخلاص من حالة حصار داخلي يعيشها المالكي وعزوف عربي عن التعاطي معه، وحصار خارجي تعاني منه إيران مع عزلة على مستوى الشارع، فتم اللقاء على أساس التخادم المتبادل بين طرفين يعانيان من اختناق متشابه في بعض صفحاته. الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها على وفق تسريبات صحافية قدمت إغراءً للمالكي لم يكن بوسعه تأجيل القبول به، بل ربما كان هو أحرص طرف على التبشير بإيجابياته، وهو حصوله على جائزة إعادته إلى رئاسة الحكومة لأربع سنوات ثالثة، إذا ما نجح في إقناع إيران بتليين مواقفها وتقديم تنازلات في الملف النووي، والتي ستبدو على استعداد لتقديمها عن طريق زبون تابع لن يتعالى عليها، ولا تعطيها بوساطة منافس إقليمي كبير يريد إظهار نفسه كقوة منافسة مكافئة لها مثل تركيا، ومن باب نزع أهم ما تحلم بامتلاكه من سلاح سياسي حربي. إيران والربيع العربي إن إيران التي تتحرك في ضوء مستجدات المشهد العربي، ستسعى إلى إثارة الأزمات بين الدول العربية كما حصل أخيراً بين مصر والمملكة العربية السعودية، وفي تصريح أخير لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، تحدث عما أسماه بالأزمة العابرة بين مصر والمملكة العربية السعودية، فلم يستبعد وجود أيادٍ خارجية وراء التأزم، وهنا يكون البحث عن الطرف المستفيد من القطيعة بين أي بلدين عربيين، ولن يكون من العسير التوصل إلى ذلك الطرف، وقد لا يكون من قبيل التجريح بأحد، أن نقول إن مصر ليست محصنة كما ينبغي بوجه محاولات الاختراق الإيرانية، وربما يشير تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، إلى أنهم ومنذ عام 1979، لم يرتقوا بموقف واع وسليم تجاه المحاولات الإيرانية للبحث عن خاصرة عربية رخوة لاختراقها، ومن ثم اتخاذها قاعدة وثوب في أفريقيا لتحقيق أهداف تصدير الثورة ونشر التشيع الصفوي، بعد أن تحققت لهم مثل هذه القفزة في آسيا بتمكنهم من الملف العراقي بمعونة أمريكا، ولمصر في التفكير الفارسي مكانة خاصة، أذكر أن معمماً من أصول عراقية ويحمل ولاء إيرانياً، زار معسكر الأسرى الذي كنت فيه عام 1988، وعرّف تاريخه بأنه كان مقيماً في مصر وكان يعمل لتحويل مصر من المذهب الشافعي إلى التشيع، وأن إيران كانت تدعمه بثقلها كله لتحقيق هذا الهدف، وأنه استطاع أن يزرع مستعمرات مهمة في أرجاء مصر لولا قرار ترحيله قبل أن ينجز المهمة التي ذهب من أجلها، وهذه الواقعة والتي تعد واحدة من آلاف لم تكتشف بعد وتجد في أجواء التسامح في مصر عوناً لها، يمكن أن تكون مؤشراً على حقيقة ما تخططه إيران للوطن العربي ولمصر بالذات التي ينظر إليها كثقل حضاري كبير. وهذه الصورة مرشحة للانتقال إلى دول مجلس التعاون الخليجي ودول ما يسمى بالربيع العربي من دون استثناء ولكن بقوة دفع أكبر، تتناسب مع مكانتها في الحلم الفارسي القديم والذي لبس عمامة وشوى جبهته بنار هادئة لتكون دليلاً على كثرة السجود، هذا الملف يتطلب قراءة متأنية من جميع الأطراف كي لا تختلط الأوراق، وتتسلل إيران عبر الثغرات التي تسهم هي بحفرها. متى تتحول الثورة إلى فوضى؟ ولأننا نظن أن مصر تساق إلى فوضى مدمرة، في ظل ضياع المسؤولية الراهنة، فإننا نظن أيضاً أن قواها المؤثرة على مستوى الشارع عليها أن تتحرك لمنع انحدارها إلى قعر هاوية سحيقة، ولكننا نؤشر بعض المفاتيح المهمة عند الحديث عن مصر، كي لا يبدو ذلك تدخلاً في شأن مصري، لمعرفتنا أن المصريين يمتلكون حساسية عالية لكل من لا يحمل الجنسية المصرية عند الحديث عما يجري في بلدهم، على حين أنهم يتحدثون في مشاكل الأمة كلها من دون حساسيات. لا يوجد شعب كالشعب العراقي عانى من مواقف وسياسات الرئيس المصري المعزول تاريخياً وشعبياً حسني مبارك، فقد كان لموقفه المعروف عام 1990 في تدويل أزمة الكويت مقابل الحل العربي الذي بذل عاهل الأردن الراحل الملك حسين بالاتفاق مع الرئيس صدام حسين جهوداً مستميتة من أجل إبقاء الملف في إطار الحل العربي، ولكن مبارك وقف بصفة أدهشت المراقبين الذين لا يعرفون غاطس سوء طوية مبارك وما يعانيه من أزمات نفسية تجعل منه راقصاً على موسيقى مهرجانات القتل الأمريكي للعراقيين، وربما كان الثمن الذي دفعه المصريون من كرامتهم وإضاعة فرص تقدم بلدهم وتطوره، خلال حقبة مبارك التي كانت أطول فترة حجب فيها شعاع الشمس عن النزول على الأرض، مكافئاً للثمن الذي دفعه العراقيون، لكن شلال الدم الذي تدفق في العراق سيبقى مسجلاً باسم إدارة بوش الأب وبوش الابن، وضلعه الثالث لمثلث برمودا العربي سيبقى ملتصقاً باسم حسني مبارك وعلى وجهه، وهذا ما يخفف من محنة المصريين في بلدهم ومع رئيس فرضته عليهم لحظة الاغتيال الملتبسة لبطل كامب ديفيد أنور السادات. وأطاح أبناء الكنانة بمبارك وألبسوه رداءً معروف الوصف، سيبقى عالقاً في الذاكرة تتناقله الأجيال، كلما مرت نقالة طبية لمعاق سياسياً أو بدنياً أو نفسياً، أو ممثلاً يجيد تمثيل أدوار الذل استدراراً للعطف والشفقة، أمام أنزه قضاء عرفته الأمة العربية، وقد لا يجد عراقي واحد في نفسه مسحة ألم على مظهر مبارك وهو ينقل إلى المحكمة على نقالة، وقد لا نمتلك الموضوعية المطلوبة والكافية بالحكم على تجربة حكم مبارك التي امتدت من حادثة المنصة عام 1981 حتى يوم أسقطه أبناء مصر بإصرارهم على معاقبته، لسياساته الخاطئة داخلياً وعربياً ودولياً، لأننا من ضحايا مبارك أيضاً، وكان لدور القوات المسلحة المصرية كلمة الختام للفصل الأخير من مسرحية نهاية حاكم لم يكتف بثلث قرن من حكم شعب فأراد تأسيس عائلة فرعونية جديدة بتوريث ابنه جمال، حينما قررت القوات المسلحة أن واجبها هو الدفاع عن الشعب والوطن والسيادة والحدود، وليس الدفاع عن النظام كما حصل ويحصل على طول المشهد العربي الفوّار بالغضب، نجحت الثورة المصرية بأقل الخسائر، سواء على مستوى الدم المصري، أم على مستوى بنية الدولة كمنظومة عصرية، أو على مستوى مؤسساتها السياسية والسيادية والاقتصادية والثقافية والحضارية. مرحلة الانتقال من حالة الثورة وما يرافقها من مظاهر ليست منها، إلى حالة دولة المؤسسات الديمقراطية، ينبغي أن تكون في مصر من أكثر التجارب ثراءً وغنى في إعطاء درس حضاري لشعوب المنطقة، في إنجاز العبور من مرحلة إلى أخرى في زمن قياسي، ولكن ما تشهده مصر في الوقت الحاضر من إصرار على التظاهرات والتي قد لا تستطيع الجهات الداعية لها، من ضبط إيقاعها السياسي ومنع المتسللين إليها من ذوي الأجندات المغايرة، بل المضادة، من تحويل مسارها عن أهدافها الحقيقية، هي الوجه الآخر لما يراد جر مصر إليه، فمصر تحتاج بعد النصر الذي حققه المصريون إلى التوجه لبناء المؤسسات الدستورية ليس على أساس الفعل ورد الفعل، وإنما على أساس الفعل الحضاري المستند إلى موروث تاريخي وقانوني، أثرى التجارب الإنسانية، فما جدوى البقاء في الشارع ومؤسسات الدولة الاقتصادية معطلة عن العمل؟ هل يسهم ذلك في تطوير الاقتصاد المصري الذي يعاني من اختناقات حادة؟ وهل تسهم التظاهرات بحل مشكلة البطالة العالية المستوى في مصر؟ وهل توفر السكن اللائق بالإنسان تظاهرات ترفع الشعارات فقط؟ على العكس من ذلك فإن استمرار التظاهر مع عدم توفر الحافز الحقيقي لها، ينقل المعركة إلى داخل الثورة نفسها ويحجب عنها رؤية الحقائق كما هي، ويثير الانقسامات بين القوى المؤيدة لها ويعطل حركة الإنتاج والبناء. ماذا يريد المتظاهرون؟ التظاهرات المتواصلة في مصر تطرح تساؤلاً ملحاً عما إذا كانت لها أهداف محددة لمنع السطو على الثورة من قوى طارئة عليها، أم أنها في حقيقتها ستفضي إلى هذه النتيجة سواء خططت لها الجهات التي تقف وراءها أم لم تخطط، فعندما يخرج السلوك الجمعي عن السيطرة تصبح أهداف الثورة في مهب الريح، وتذهب البلاد إلى حالة من الفوضى بلا نهاية، ووضع كهذا لا يخدم من يسعى إلى وضع مصر على طريق مسؤولياتها القومية، بصفتها أكبر بلد عربي يتطلع إليه المؤمنون بدور مصر كما رسم إيجابيات معالمه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأن تنهض به على طول الساحة القومية وعرضها، من دون منة على أحد، ولكن إعادة إنتاج سلبيات الماضي على طريقة اجتثاث البعث في عراق بول بريمر، لا يمكن أن يقود مصر إلى شواطئ الأمن والاستقرار والعودة إلى قوة دور الدولة بعد الانتقال من شرعية الثورة إلى شرعية دولة المؤسسات الدستورية. إن الحركات الدينية في مصر وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، أمام امتحان الجدارة بعد الفوز الذي حققوه في صناديق الاقتراع، وليحولوه إلى نجاح أكبر في قيادة دفة الحكم، اعتماد سياسة الأبواب والنوافذ المفتوحة على الجهات كلها، فالمعارضة تستطيع تحريك الشارع عاطفياً وتستطيع شحنه بقوة واستقطابه إلى جانب برامجها، ولكن قيادة الدول تختلف عن ذلك كثيراً، فهناك استحقاقات على من يتولى الحكم لإثبات جدارته في هذا الميدان، وفي حال الفشل فإن الشارع سيخذل في أول عودة إلى صناديق الاقتراع، من جاء بهم في المرة السابقة، والدلائل القائمة حالياً تشير إلى التيارات الدينية أو ما يسمى بالإسلام السياسي، سوف تتمسك بالحكم وتمارس الدكتاتورية التي ظلت لزمن طويل تتهم أعداءها السياسيين بممارستها، وهنا تبرز إلى الواجهة تجربة الحكم في إيران التي تطرح نفسها كتجربة ديمقراطية جاءت عبر صناديق الاقتراع، وفي ذلك مغالطة كبرى لن تستطيع الصمود أمام الحجج الداحضة، فالديمقراطية ليست صناديق الاقتراع فقط، فما أكثر ما توضع قيود على أسماء المرشحين كما يفعل مجلس صيانة الدستور في إيران، ويمنع المرشحين حتى من داخل الحركة الدينية هناك، لأنها لا تؤمن بمنهاج محدد يطلق عليه اسم ولاية الفقيه، وهناك عمليات شراء الأصوات بقوة الفتوى الدينية التي تسلب من الفرد جزءاً كبيرا من حرية الاختيار، وهناك التزوير اللاحق مما يخل على نحو فادح بصفة الديمقراطية التي لا يمكن أن يطبقها أو يحميها إلا الديمقراطيون، ثم أن الديمقراطية منظومة متكاملة من الممارسات الميدانية وليست كراسات تطبع في الخارج وتوزع بصفة سرية. في واحدة من مظاهر خروج التظاهرات عن مسارها السياسي وتحولها إلى فوضى ليست خلاقة على كل حال، وقع اعتداء على مقرات البعثات الدبلوماسية السعودية في القاهرة، مما أدى إلى رد فعل سعودي حازم ربما لم يتوقعه أحد من المصريين، سواء في المجلس العسكري أم قادة الأحزاب، أم القوى المحركة للأحداث من خارج المسرح السياسي، وإن كان من خطط له كان يريد هذه النتيجة بالذات، قد يكون رد الفعل السعودي قد ذهب إلى أبعد مما هو متوقع، لأن الوقائع الميدانية تؤشر إلى عدم وجود سلطة مطلقة القوة على مستوى الشارع، فتحميل مصر الرسمية التي لا وجود لها في الوقت الحاضر، قد يؤدي إلى نتائج يريدها الطرف الذي يتحرك بخطط بعيدة المدى لإيقاع النزاع بين المملكة العربية السعودية ومصر ونعني به إيران، بصفتيهما (مصر والسعودية) أكبر قوتين عربيتين قادرتين على مواجهة محاولات التغلغل والتسلل الإيرانيين إلى مصر بالخصوص، نتيجة تحقيق الإخوان المسلمين الأغلبية في مجلس الشعب المصري، وعدم توفر الحصانة الكافية عند الجماعة أمام النوايا الإيرانية الطامعة ببسط الهيمنة على الوطن العربي، بعد أن حققت قفزتها الكبرى في العراق وبدأت تطرق أبواب الخليج العربي، وتحاول فتح باب الغزل بصوت عال مع الحركات الإسلامية في كل من مصر وتونس وسائر أقطار المغرب العربي، وهي قوى غير محصنة تجاه مبدأ تصدير الثورة ونظرية ولاية الفقيه المطلقة والتي تجعل من علي خامنئي وصياً على الشعوب الإسلامية وحكامها. وبسبب حساسية الظرف العربي بالغ التعقيد، سيكون في غاية الأهمية أن تتشكل في المملكة العربية السعودية، وعلى أعلى المستويات خلية لمعالجة الأزمات، للتعامل مع المستجدات السياسية الإقليمية والدولية بأعصاب باردة وبعيداً عن ردود الفعل الغاضبة، ويتحدد دورها بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث المحلية والعربية والدولية، بملاحقة مساعي إيران ورصد تحركاتها على مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، وخارجهما على الجاليات الإسلامية، أو محاولاتها للخروج من شرنقة العقوبات الاقتصادية، ووضع خطط التحرك المضاد الذي يضمن إفشال مساعي اختراق منظومة الأمن القومي العربي، وبدايتها منظومة الأمن القومي في منطقة الخليج العربي. بسبب حساسية الظرف العربي بالغ التعقيد، سيكون في غاية الأهمية أنْ تتشكل في المملكة العربية السعودية، وعلى أعلى المستويات خلية لمعالجة الأزمات، للتعامل مع المستجدات السياسية الإقليمية والدولية بأعصاب باردة، بعيداً عن ردود الفعل الغاضبة، ويتحدد دورها بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث المحلية والعربية والدولية، بملاحقة مساعي إيران ورصد تحركاتها على مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، وخارجهما على الجاليات الإسلامية، أو محاولاتها للخروج من شرنقة العقوبات الاقتصادية، ووضع خطط التحرك المضاد، الذي يضمن إفشال مساعي اختراق منظومة الأمن القومي العربي، وبدايتها منظومة الأمن القومي في منطقة الخليج العربي.