^  يتهم الإعلام العمومي في بعض الأحيان بأنه “أعور، غير ديمقراطي وخشبي”..!! هذا ملخص لائحة الاتهامات الجاهزة والمكررة، ولكن واقع الحال أن العديد من المنتقدين لهذا الإعلام أنفسهم، يتعاملون يومياً مع إعلام آخر، هو أيضاً “أعور خشبي وغير ديمقراطي”، ويكاد يكون الظهور فيه وعبر قنواته الخشبية وجبة يومية من الردح والتهريج والتجييش البذيء في ساحة إعلام طائفي، غير مهني وبائس في قيمه ورسالته.. ولذلك فلا معنى هنا لأية مزايدة، خاصة وأن الكارثة قد مست اليوم حتى الإعلام “المهني”نفسه أو المعروف بمهنيته قد تورط هو الآخر، وانزلق في الحرب الإعلامية المفتوحة ضد البحرين في محاولة للي عنق الحقيقة، للتأثير السلبي على مجريات الأحداث لأسباب أيديولوجية لا علاقة لها بالمهنية ولا بالحقيقة!!.. ولذلك نكاد نقول صراحة وبأسف: “الحال من بعضه”!! الإعلام الرسمي في البحرين في أزمة، هذه حقيقة، لأن الوضع الطبيعي أن يكون كذلك، في ظل الأزمة السياسية - الاجتماعية المتفاقمة، وهي أزمة ثقة وانقسام: فقسم مهم من المجتمع لم يعد يثق بهذا الإعلام لأسباب سياسية وطائفية لا علاقة لها بالموضوعية والمهنية، حتى لكأنه بات يتكلم إلى نصف المجتمع فحسب، وبذلك يكون عملياً كمن انفصل عن الجماعة التي تظهر كل ليلة في القنوات الأخرى لتتحدث” عن حقائق أخرى” عن مجتمع آخر غاضب من الإعلام الرسمي.. هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها بالادعاء والإنكار. إنها أزمة مخيفة، ولكن ليس المسؤول عنها الإعلام نفسه بكل تأكيد (القضية هنا ليست مهنية فحسب إنها سياسية واجتماعية) لأن الخطاب الإعلامي له شروط كثيرة باعتباره معبراً عن شروط الحياة وسياساتها وناسها ليكون مرآة للنظام السياسي وللمجتمع الذي يعبر عنه ويتحدث إليه، وهذه علاقة جدلية وتفاعلية بين المجتمع والنظام السياسي عبر الإعلام.‏ إن ممارسة التأثير في المجتمعات الديمقراطية لا تعتمد على الإكراه، بل على الإقناع، أي على الخطاب الإعلامي، أي أنها عملية أيديولوجية في نهاية المطاف، والإعلام الحكومي هنا لا يعكس الواقع أو طبيعة العلاقات في المجتمع فقط، وإنما يساهم في بنائها عبر عمليات إدراك الواقع، وتحديد الهويات الاجتماعية، وتكوين الخطاب، واختيار اللغة والأسلوب والمتحدثين، والتفاوض بين منتج الخطاب والجمهور الذي يستقبله، بما يجعله مؤثرًا في بناء العلاقات الاجتماعية وتحديد الهويات والمتغيرات المحلية والدولية التي تعكس أوضاع المجتمع وثقافته والأزمات والتحديات التي يواجهها..وهذا لا يتحقق دون وجود إرادة سياسية حقيقية ودون قيام السياسيين بحل ما هو سياسي على نحو عاجل ودون تراكمات ودون التعويل على الإعلام ليحل محل السياسة. وتأتي بعد ذلك مسألة الكفاءة والمهنية، فالإعلام مسألة دقيقة وخطيرة ويجب أن يتعامل معها مختصون وخبراء، لأن الخطاب العمومي الفعال هو الذي يصدر عمن يمتلك رؤية واتساقاً في المنطق والتحليل وسرعة في الحركة والبرمجة وانسجاماً في اللغة، وتكاملاً بين مستوياته، كما يكون قادراً على مواكبة الواقع وامتلاك القدرة على تبني المقولات أو المفاهيم التي يطرحها الخطاب المعارض ودمجه في إطار بنيته الخطابية، بهدف التأثير في الجمهور وضمان عدم احتكار المعارضة لهذا التأثير من ناحية، والدفع بالإعلام العمومي إلى أن يكون عمومياً بحق، ولن يكون كذلك إذا ظل محدود الأفق والإمكانات... ولا شك- أخيراً- أن تحولاً من هذا القبيل يتطلب كفاءة ومعرفة وعلماً واسعاً على صعيد فهم الخطاب الإعلامي وتحليله، ودمج وتطوير البعد الإدراكي في عملية تحليل الخطاب وتحليل ممارسات إنتاج الخطاب وآليات تلقيه من قبل الجمهور وتفاعله معه والقدرة على بناء الخطابات الإعلامية وتفكيكها وتحليل لغة الأيديولوجيات المختلفة وتأثيرها في بناء هذا الخطاب، وبدون كفاءات قادرة على التعامل بهذا المستوى من المعرفة والوعي والكفاءة سيظل الخطاب الإعلامي محدود الفعالية وجزئياً.