^   دون الحاجة للغوص عميقاً في التاريخ، من الطبيعي أنْ تقف عوامل كثيرة وراء هذا التقدم الكوري في المجالين الاقتصادي والصناعي، فلابد أنْ يكون للتكوين الحضاري والخلفية الثقافية، على حد سواء دور كبير فيهما، لكن بعيداً عن كل ذلك يمكننا الحديث عن عامل أساسي معاصر واحد هو نظام التربية والتعليم الحديث المعمول به في كوريا اليوم، والذي ينقل رزق الجيزاوي عن الباحثة في مؤسسة كيريس (مؤسسة الأبحاث التربوية الكورية) «جوى أون هي» وصفها له بأنه «مبني على التقليد عبر الاستفادة من النظام التربوي الديمقراطي الغربي»، ونجح كما يقول الجيزاوي في أنْ «تبلغ نسبة الأميّة في كوريا الجنوبية بين الكبار 1.7%، ونسبة الأميّة بين الصغار تكاد تصل 0%. ومعدل إتمام الشهادة الابتدائية الإجبارية 100%، ونسبة الإنفاق على التعليم من الميزانية العامة للدولة 18% من جملة إنفاق الحكومة، ونسبة من يكملون الدراسة بعد الثانوية 34% وهي أعلى النسب في العالم، ويُعد طلاب كوريا الجنوبية الأفضل في الرياضيات على مستوى العالم يشاركهم في العلوم طلاب اليابان». وتعكس تسميات الشركات الكبرى الطموح الكوري، فالمعنى اللفظي الكوري لشركة سامسونغ هو «ثلاث نجوم»، تشير إلى سعي الشركة لأنْ تصبح «كبيرة» أولاً، و«قوية» ثانياً، و»خالدة» ثالثاً. لكن الأهم من ذلك كله هو ذلك الدور المميّز، الذي مارسه القطاع الخاص في النهضة الكورية المعاصرة، حيث بدأ الكوريون خطة إعادة هيكلة القطاع الخاص بالكامل في العقد الأخير من القرن العشرين، ونجحوا كما تقول مصادر رسمية كورية في تحسين «معدل ديون الأسهم في قطاع التصنيع بشكل دراماتيكي، من نسبة 396% في أواخر العام 1997 إلى 81.5% في سبتمبر 2006، وقضوا على أسطورة (الشركات الكبرى عرضة للفشل)، حيث تمَّ بيع 16 من أصل 30 من كبريات الشركات الكورية، أو تمَّ دمجها أو حلها. وتمَّ تنفيذ قانون إدارة الشفافية والمساءلة، ودعمه عن طريق تعيين مديرين من خارج الشركات، وتقديم لجان الفحص والمراجعة والنشر الإجباري للتقارير المالية المشتركة». ترافق ذلك مع تطلع طموح أيضاً نحو العالمية، فساهمت كوريا في تسديد الأعباء المالية في مؤسسات دولية، فوصلت التزاماتها في صندوق النقد الدولي حوالي 15 مليار دولار، كي تأتي بعد اليابان التي تعهدت بمبلغ 60 مليار دولار، وتسبق أستراليا حيث كانت حصتها 7 مليارات دولار، وسنغافورة بحصة وصلت إلى 4 مليارات دولار. من الطبيعي أنْ تسعى واشنطن، كما تعاطت مع ظاهرة النمور الآسيوية في الربع الأخير من القرن العشرين، إلى لجم تمرد هذا النمر الكوري وتقزيم طموحاته، كي تعيده إلى القفص الذي تحاول سجنه فيه، فتتمكن من تقييد حركاته التي باتت تشكل تهديداً جدياً لمصالح الاحتكارات الغربية على نطاق عالمي، يتجاوز حدود جنوب شرق القارة الآسيوية. ومن المتوقع أنْ تلجأ واشنطن منفردة أو بقيادتها للمعسكر الغربي، وخاصة دول منطق اليورو، دون أن تستثني بعض حلفائها الآسيويين، وربما الشرق الأوسطيين، لتحقيق ذلك عن طريق خطوة أو مجموعة مترابطة من الإجراءات والسياسات، التي يمكن حصر أهمها في النقاط التالية: 1. التلاعب بالعملات، من خلال أرجحة أسعار الدولار بين هبوط وارتفاع وفقاً لأوضاع السوق، مما يربك قدرة الشركات الكورية على وضع خطة تسعير متكاملة، وعلى المدى المتوسط، دع عنك الطويل، تستطيع من خلالها الدخول إلى حلبة التنافس الدولية التي ستفرض شروطها وتوقيتها، حينذاك الإدارة الأمريكية. سهام الإرباك التي ستصيب حركة التصدير الكوري في مواقع قاتلة من جسدها، من الممكن في حال عدم استعداد كوريا لها أنْ تحدّ من حركة «النمر الكوري» وتلجم تمرده. 2. ممارسة ضغوط سياسية وتجارية على دول الشرق الأقصى، مثل ماليزيا وسنغافورة، من أجل الانصياع للمشروع الأمريكي الهادف إلى تطويق «النمر الكوري» تهيؤاً للانقضاض عليه، وإخضاعه للمشروع الأمريكي إزاء تلك المنطقة الهادف إلى إعادتها إلى حظيرة التبعية للاقتصاد الغربي والحيلولة دون تنمية عضلاتها الاقتصادية، ومن ثمَّ السياسية التي تغريها بالتمرد أو حتى النزوع نحو الاستقلالية. من غير المستبعد أنْ تجد واشنطن هنا استجابة لهذه الضغوط، إما لخوف البعض منها أو لتطابق مصالح البعض الآخر مع مصالحها. 3. تقديم تنازلات للدول الآسيوية الكبيرة مثل الصين، والتنسيق معها لاحتواء «النمر الكوري». وقد بدأت طلائع الغزل الأمريكي للصين في تصريحات وزير الخزانة الأمريكي تيموثي غيثنر، الذي أكَّد «أنَّ بلاده مستعدة لفتح أسواقها للصين وتسهيل حصولها على التقنيات الأمريكية، شريطة أنْ تحرز بكين تقدماً في عدد من القضايا التي تهم الولايات المتحدة، (منوِّهاً) إلى انعقاد جلسات الحوار الاستراتيجي والاقتصادي في بكين في مطلع مايو 2012»، مشيراً إلى رغبة واشنطن في «مواصلة إحراز تقدم في هذه القضايا، ولكن قدرتنا على ذلك تعتمد جزئياً على التقدم الذي تحرزه الصين في المجالات المهمة بالنسبة لنا». 4. تحميل دول شرقي آسيا، الصغيرة منها والكبيرة، ومن بينها كوريا الجنوبية مسؤولية الأزمة العالمية، ودعوتها في صيغة تهديد توعدية المشاركة في انتشال الغرب من أزمته، التي لم تكن لتلك الدول أية أيادٍ فيها. وقد أطلقت واشنطن بالون اختبار في هذا الاتجاه في أواخر عام 2011، عندما طلب وزير الخزانة الأمريكي في كلمة له أمام مؤتمر التعاون الدول الآسيوية ودول محيط الهادئ (أبك) من الدول الآسيوية «المساهمة الفاعلة في إعادة الثقة إلى الاقتصاد العالمي، وإعادة النمو الإيجابي إليه، ملوحاً بشكل مبطن عدم الرضا الأمريكي بالقول «تقوم الولايات المتحدة بالتصدي للأزمة التي تمر بها وتعاني القارة الأوروبية من بطء النمو على الدول الآسيوية، والعمل على تحفيز الاقتصاد العالمي عن طريق تشجيع الاستهلاك الداخلي، مما يحصنها ضد احتمالات ضعف النمو». لاشك أنَّ حلبة الصراع تتسع لأكثر من متنافس، كما إنَّ كوريا تبحث اليوم عن أكثر من حليف استراتيجي، يشد من عضدها في صراعها مع واشنطن، مما يفتح المجال أمام البلاد العربية، وعلى وجه الخصوص النفطية منها، إن هي أرادت أسوة بدول نفطية أخرى، أن تشكل كتلة عالمية تخفف من الضغوط الجشعة، التي لا تكف واشنطن عن اللجوء إليها لإحكام سيطرتها على مناطق نفوذها الدولية. وربما يحقق التقارب العربي - الكوري مصالح مشتركة للطرفين، تولد كتلة سياسية قوية، تعزز من قدرات المتمرد الكوري، وتساعده على تجاوز الضغوط الغربية من جهة، وبالقدر ذاته تزود الطرف العربي بعناصر القوة التي يحتاجها كي يشل، أو ربما يُضعف الأيادي الغربية، التي لا تكف عن الإمعان في السيطرة عليه ونهب خيراته، من جهة ثانية