^ كان منهمكاً بين حاسوبه على يمينه وأوراق كثيرة نثرها على طاولة مكتبه إلى يساره حين سمع طرقاً هادئاً على بابه المفتوح؛ بادرته بحياء (دكتور مشغول!؟) أجابها بالنفي، ترك ما بيده ودعاها إلى الجلوس والحديث. كانت واحدة من طلبته في أحد فصول المستوى الرابع. قالت جئت لأعتذر لأنك سألتني في الفصل ولم أجب. شكرها على بادرتها وطمأنها أنه متأكد من أنها ستتجاوب مع الأسئلة والنقاش في الفصل مستقبلاً بعد أن تتعود على طريقته وتبذل جهداً في التحضير المسبق. توقفت عن الحديث وكأنها انتهت مما جاءت من أجله؛ فشجعها ودعا لها بالتوفيق. مد يده إلى فأرة الحاسوب يعاود ما كان منهمكاً به لولا أن صوتها الهادئ أتاه ثانية (دكتور مشغول!؟!). أيقن أن البنت ما جاءت من أجل هذا فقط، فترك كل شيء وفرغ نفسه تماماً، ودعاها لأن تأخذ وقتها في الحديث. تبين أن لديها مشكلة في أحد مقررات المرحلة الثانية، والذي يعد من المقررات الساندة، وهي لا تريد أخذ المادة مع مدرسها الحالي، وقدمت أسباباً لذلك، وأنها ودت لو أن أحداً غيره يدرس المادة في الصيف لعلها تنتهي منها، وذكرت أنها حدثت رئيس القسم، لكنها عبرت في الوقت ذاته عن إحباط عالٍ من أن تسمع الإدارة -أياً كان مستواها- لكلامها أو تساعدها في حل مشكلتها!. إذاً فهي مشكلة طلابية عادية بسيطة يمكن لرئيس القسم أو الكلية التدخل لحلها؛ ليس بالضرورة بتغيير المدرس، ولكن بمحاولة معالجة الأسباب؛ من خلال الحوار المباشر مع الطلبة، كذلك مناقشة الموضوع مع مدرس المادة. كان قد سمع من طلبة آخرين كلاماً مماثلاً؛ لكنه إشكال روتيني في الحياة الجامعية ومتكرر، وحلوله ميسرة، لكن المشكلة كانت تكمن في شعور الطالبة باليأس والإحباط من أن تقدم لها إدارة القسم أو الكلية يد المساعدة. حثها على إعادة طرح الموضوع على رئيس القسم وهو يسائل نفسه عن السبب الذي حدا بها أن تلجأ إليه؛ ربما شجعها بابه المفتوح! أو ربما توقعت منه أن يجر نفسه إلى رئيس القسم أو عميد الكلية ليطلب منه التدخل في شأن يخص زميلاً له، أو لربما كانت بحاجة لمن يستمع لها ويتعاطف معها ويشجعها ويسدي لها النصح؛ وهذا من صلب مسؤولياته مدرساً ومرشداً وأباً.. لكن.. لم يعجبها رده التشجيعي على أخذ المادة ومحاولة التغاضي عن السلبيات وحل أية إشكالات من خلال الحوار المباشر مع المدرس ولا بأس من اللجوء إلى إدارة القسم إن تعذر الحوار. قالت متألمة يادكتور لقد ندمت لأنني ذهبت إليه في مكتبه وسألته سؤالاً واحداً؛ هل من الممكن أن تطرح هذه المادة في الصيف؟! ندمت.. ندمت.. أبقاني وزميلتي واقفتين لساعة ونصف حتى آلمني ظهري وهو يحدثنا بأسلوب فوقي جارح مهين، قال مستهجناً أنا آتي في الصيف لأدرسكم وهل جوكم هذا يحتمل، وهل تعتقدون أنكم حقاً تدرسون الهندسة أم أنكم ستكونون مهندسين، أنتم لا تفهمون شيئاً، لو كان بيدي ما أبقيت منكم من أحد في القسم، ومدرسوكم سيئون؛ ما تقولون بفلان وما تقولون بفلان!! وتحدث بسوء عنكم، وقال إنه لن نبقي فلانا أو فلاناً. يادكتور كنت أنا وصديقتي نستعجل نهاية اللقاء لكثرة ما تألمنا. لقد ندمت أني سألته، ندمت ندمت.. كلام خطير إن صح ولابد لإدارة القسم أو الكلية من التحقق منه إن وصلها وإن رغبت هي في ذلك. ولكنه ودون أن يكذب الطالبة حدثته نفسه أنه لربما عرض الطالبة للموضوع فيه شيء من المبالغة. ورغم إمكانية وجود مثل هذه السلوكيات؛ إلا أنها نادرة جداً خصوصاً في جامعة كالجامعة التي يعمل فيها؛ لأن فيها من آليات المتابعة والتقويم للتدريسيين ما يفترض أن يكتشف ذلك حتى وإن لم يتقدم الطالب بشكوى. إضافة إلى ما يفترض من التواصل المستمر بين إدارة القسم والكلية مع الطلبة، وتلمسها لأي مشاكل يمكن أن تؤثر على العملية التعليمية أو حتى على نفسية الطالب. وهناك من نظم الإرشاد ما هو أكاديمي واجتماعي ومهني. كرر لها نصحه بالتحدث إلى رئيس القسم أو العميد أو أن تغفر لأستاذها خطأه الذي قد لايكون متعمداً؛ فلربما كان منزعجاً من شيء. وهو في النهاية بشر.. هزت رأسها وطأطأته وتمتمت لن يفعلوا شيئاً. ثم رفعت رأسها وبدت وكأنها تستجمع شجاعتها وتمنع دمعة بدت متأهبة للنزول من عينها. قالت يا دكتور لقد قال لي هل تعتقدين أنك نظيفة بهذا الحجاب!! هل تعتقدان أنكما لن تغشا لو امتحنتكما هنا الآن وخرجت، وساءلنا ما إذا كنا قد غششنا من قبل!! قال أنتم مسلمون نعم لكن الغرب أحسن منكم لأنهم لا يغشون!! لقد أهاننا يا دكتور ونحن لم نفعل شيئاً فقط سألته إن كان المقرر سيطرح في الصيف؟!. ارتفع ضغط الدم في رأسه وشعر برأسه ينفجر؛ لكنه حرص أن يبقى متماسكاً. وسألها عن الكيفية التي قال بها ما ادعت والكل يعرف أن المدرس الذي تشتكيه لا يتكلم العربية إلا مضطراً رغم أصله العربي!.. قالت نعم قالها بالإنجليزية وعنفنا، وقال أنتم لا تعرفون الإنجليزية لأنكم تأتون من مدارس غير جيدة. ثم قال لي إنجليزيتك أحسن من زميلتك في أي مدرسة تعلمت؟ أجبته كنا في ذات المدرسة!!.. لم أستطع أن أستمر في المقرر بعد هذا اللقاء. لم يكن أمامي من خيار غير سحب المقرر. لكن متى سأتخرج إن استمر هو فقط يدرسه؟!! اكتنفته مشاعر مختلطة وكان ألم رأسه شديداً وهو يحاول أن يتفهم ما سمع أو أن يكذبه. من الصعب عليه أن يصدق آنذاك أن المدرس أو غيره يمكن أن يقول ما نسبت له أو أن يتصرف كما ذكرت؛ لأن الأمر عظيم إن صح. وكيف له أن يكذبها أو يشكك في روايتها، لا يمكنه ذلك أيضاً لابد من إجراءات للتحقق. ولكن كيف يمكن ذلك وهي تشعر بإحباط عالٍ من صدقية الإدارة في مساعدتها. شعر أنه في مأزق شديد. لقد قصدته لتشرح له مخزوناً من الألم لم تستطع أن تشرك حتى أهلها فيه؛ لربما لأنها خافت من أن يتخذ بعداً آخر. فضلت أن يبقى حبيساً بينها وبين زميلتها. كان لديه شعور عالٍ بالأزمة، ورغبة عالية في أن يجد مخرجاً للمأزق، وأن لا يخذل طالبته التي قصدته. كان ألم رأسه شديداً جداً. حين عاود الحديث ثانية لاحظ أن الابتسامة عاودت ظهورها على وجه طالبته المزدان بحيائها؛ فأيقن أنها شعرت براحة كبيرة بعد أن ألقت عن صدرها هماً كبيراً، وقيحاً كدر صفوها، وأيقن أن جزءاً كبيراً من المشكلة قد تم تجاوزه مع ما روت مما كان حبيس نفسها. ولعل بعضاً من كلماته قد لاقت صدىً في نفسها وطمأنتها.. في محاضرة اليوم التالي وجد نفسه سعيداً فرحاً بطلبته وهو يراهم ومعهم طالبته تلك نشطين متجاوبين متفاعلين . قال لهم أنا فخور بكم طلبتي. كتبتها لكم على تويتر وأقولها لكم اليوم. فخور بكم طلبتي لأنكم جديرون بالفخر... وهو يغادر الجامعة لمح صورة كبيرة علقت في مكان بارز يظهر فيها المدرس المشكو منه يحاور طالباً على ما يبدو. لم يدقق في الصورة ولم يكترث لها؛ فطالبته اليوم قد أيقنت أنها فخورة بعلمها وخلقها وأدبها وحجابها، وأن عليها ألا تلتفت لهذا أو ذاك يلهيها عن مستقبلها الذي ينتظرها، أيقنت أنها نبتة طيبة في أرض طيبة في بلد طيب وقد أزهرت وأسعدت من حولها، وأن أهلها الطيبين ينتظرون ثمر طيبهم وصبرهم. أيقنت أن والديها أولى أن تسعدهما بخبر تخرجها المتفوق من أن تبقيهما ينتظرانها تنتهي من إشكال أحدثه هذا أو تسبب به ذاك!! أستاذ جامعي وكاتب صحافي
رفقاً بالقوارير
15 أبريل 2012