^   قال في معرض الحديث عن الديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي: إننا في البلاد العربية نخلط بين الطرح العاطفي الحالم لواقعنا والطرح الواقعي العلمي، فأنت تتحدث عن “الوطن العربي” وعن “الثقافة العربية” وكأنهما واقع عياني، في حين أن الواقع مختلف تماماً، الواقع مؤلم، فعليك لتستفيق من الحلم أن تتجول بين مطارات العرب لتدرك أن هنالك أوطاناً عربية، وعوالم عربية، وثقافات عربية، ولذلك عليك أن تتوقف أنت وأمثالك عن الادعاء بغير ذلك عليكم أن تستيقظوا من الحلم ومن النظرة الرومانسية التي تقدم الحلم عن الواقع والعاطفة عن العلم، فليس هنالك اليوم وطن عربي ولا هم يحزنون.!!. قلت: الطرح ها هنا ملتبس، فالوطن العربي (وليس عالماً بالمناسبة) قائم جغرافياً، وقائم لغوياً وثقافياً، وقائم وجدانياً وقائم اجتماعياً، بمعنى الانتماء وبمعنى الرابطة وبمعنى الطموح والحلم، والخلل الأساسي ها هنا سياسي يتعلق بانعدام الإرادة السياسية لتجسيم المجسم، بل إن الإرادة السياسية القائمة تتجه بعكس الواقع إلى التقسيم والتفتيت وإلى إبراز الهويات الجزئية وتضخيمها على حساب ما يجمع، ولسنا في حاجة إلى تقديم مثال الاتحاد الأوروبي الذي تحول إلى عالم حقيقي رغم عدم تجانسه في العديد من الجوانب الثقافية واللغوية والعرقية وغيرها، بل إن أوروبا التي أصبحت اليوم تشمل دولاً شرقية وغربية شمالية وجنوبية تتجه على الأرجح إلى أن تتحول إلى وطن واحد بمعنى الانتماء إلى قيم موحدة وإلى نمط عيش متشابه بمعنى المواطنة الأوروبية، وأن الذي يميز بين التجربة الأوروبية الاتحادية والتجربة العربية هو فقط ضعف الإرادات وبؤس السياسات.. فالوطن العربي عالم واحد رغم ما فيه من تنوع سياسي وثقافي واجتماعي وجغرافي، وما ينقصه هو ما جعل من الصين واحداً وما جعل من أوروبا اتحاداً وهو الإرادة السياسية. قال: حتى الثقافة التي تتبجحون بأنها الوعاء الجامع للعرب، لم تعد ثقافة واحدة، فهنالك اليوم ثقافات عربية وليس ثقافة واحدة؟ قلت: فيما يتعلق بالثقافة العربية التي تعتبرها (ثقافات) فهذا، إذا قصدت به تقريراً لواقع، فهو لا يضيف شيئاً ولا ينقص شيئاً ولا يفضي بالضرورة إلى التشكيك في وحدة الوطن العربي، ففي كل البلدان الكبيرة والصغيرة على حد سواء هنالك ثقافات، ولكنها في النهاية تنصهر في إرادة واحدة، فالتعددية مسألة أساسية في الثقافة بمعناها الواسع، وهي ليست مسألة نزاعية، فلا وجود لنزاع بسبب التعدد الثقافي حتى داخل البلد الواحد متعدد الأعراق والثقافات (مثل العراق أو لبنان أو مصر أو سوريا أو الجزائر أو السودان..)، بل إن العالم المتحضر يعيش نوعاً من الانسجام ومن الوحدة بسبب هذا التعدد الثقافي نفسه، المهم ألا تكون هنالك ثقافة إلغاء واستحواذ أو استبعاد أو إقصاء، المهم أن تكون هنالك ثقافة تنصهر فيها جميع المكونات التاريخية والاجتماعية في نوع من الثراء الثقافي الذي يكتسب قوته واستمرار يته من تنوعه. المشكلة يا صديقي، لا تكمن في التوصيف، بل تكمن في الموقف الأيديولوجي، وهذا هو الذي أخشاه بالفعل من مواقف العديد من المثقفين المشككين في وحدة الوطن العربي من أمثالك، تلك المواقف التي غالباً ما تعبر عن نكوص وتشكيك بالرابطة العربية، إذ ازداد الشعور خلال السنوات الماضية بأن الفكرة العربية كرابطة قد تآكلت بشكل مدهش وبات الانتكاس والتراجع عن هذه الرابطة سياسياً هو الإطار الحاكم للأفعال وردود الأفعال، وتطور الأمر من خلال التعبير المتعاظم لدى قطاعات من الرأي العام العربي، وفي مقدمتها العاملون بشؤون الفكر والثقافة. قال: ألا ترى إن الذين نادوا بالعروبة وتكلموا عن الوطن العربي ورفعوا لواءه قد تحولوا مع الزمن إلى قمة الديكتاتورية بل ارتكبوا جنايات في حق العرب والعروبة؟ قلت هذا صحيح، وإذا كنا ندرك اليوم الأسباب العميقة والمباشرة لهذا الانتكاس ونعلم بأن الحروب والكوارث التي عشناها خلال العقود الماضية والنكبات التي تسببت فيها بعض الأنظمة العربية الدكتاتورية التي رفعت لواء العروبة، بقدر ما يدعونا هذا الانتكاس إلى مراجعة الطرائق التي تعامل العرب مع قضاياهم المصيرية في المرحلة الماضية، يستفز التفكير المتجدد الذي حبس لحقبة طويلة ويحثه على التأمل وعلى توسيع دائرة رؤيته واستقصاءاته، ويدفع المناقشة إلى مستويات أعلى تتجاوز المشكلات والإشكاليات الجزئية والثانوية لتصب في مشكلات التحول الكبرى. والأخطر من ذلك التوجه الفكري لدى عدد من المثقفين- من أمثالك- من الذين يعلنون صباح مساء عن انتهاء العروبة كإطار جامع للعرب وكأفق للتحرر وكمشروع للوحدة، ليس من منطلق عاطفي ولا من منطلق الإحباط من الأنظمة السياسية ولا من منطلق اليأس من السياسات العربية في مجال بناء التكامل بل الخطير أن هذه الأفكار تنطلق من تأسيس نظري يقوم على أساس رفض فكرة العروبة كرابطة سواء من خلال رؤية معولمة أو من خلال رؤية قطرية ضيقة معاكسة للأولى.