ربما -كعراقي- أجد لنفسي حقاً محدوداً أو لا أمتلك حقاً بالمرة، في حال دخولي طرفاً على ملف قضية داخلية لأي بلد عربي، لا سيما وأن الصحفيين العرب متهمون بأنهم أهم عامل من عوامل التأزم في العلاقات العربية، أو في إثارة الفتن الداخلية للبلد الذي لا تعجبهم سياساته أو مواقفه، وقد أفقد الحق في إبداء وجهات نظر سياسية، حينما أكتب إلى صحيفة في البلد المعني، وخاصة إذا كانت تتبنى وجهة نظر متطابقة أو قريبة من وجهة نظر الكاتب، لأن ذلك قد يثير استياء قوى محلية تجد نفسها في مواجهة الحكم بشأن القضايا المطروحة على مائدة الحوار والذي يراد له أن يتحول إلى تفكير بصوت عال، وتأخذ القضية بعداً أكبر حينما تكون القضية محل استقطاب مجتمعي على أسس فكرية وفي بلد صغير من حيث المساحة وعدد السكان.ولكننا نحن الذين عشنا مرحلة الربيع القومي في خمسينيات القرن الماضي، أي قبل نصف قرن من الربيع العربي الأخير، كنا على الدوام، نتيجة الظروف والشعارات المرفوعة في ذلك الوقت نمنح أنفسنا حق إبداء وجهات نظرنا في كل ما يجري على الساحة العربية من دون كوابح، بحكم التربية القومية التي تلقيناها في مرحلة الطفولة والشباب، وحافظت على انحيازها للأمة ضد الأخطار التي تتهددها أياً كان مصدرها أو الفكر الذي تتبناه، ولم تنل منها التغييرات التي طرأت على المشهد السياسي العربي الرسمي، وربما كان الثمن الذي علينا دفعه في بلداننا، أكبر من الغضب الذي ينتاب من يظننا نتدخل في شؤونه الداخلية، ولكن في معظم الأحيان كانت مواقفنا تحظى بقبول على مستوى الشارع العربي، لأنه هو البوصلة التي سارت التيارات القومية على هدي فنارها، منذ أيام ساطع الحصري وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وسعدون حمادي وعبدالرحمن البزاز، وسائر قادة الفكر القومي الذين تداخلت مراحلهم مع بعضها، وهذا وحده ما كان يدعم تحرك التيارات القومية بدرجة تقدم المزيد من إغراء المعاودة، على الرغم من التضحيات التي تحملها القوميون، أو أن المواقف المعبر عنها كانت تارة تحظى بقبول جامع من النظام الرسمي العربي والشعب كما حصل إبّان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، أو كان يلقى قبولاً من النظام الرسمي ويثير غضب الشعب، وتارة ثالثة يكون مرحباً به شعبياً ومثيراً للسخط الرسمي، وهذا التقلب بتلقي المواقف القومية سواء الصادرة عن الأحزاب والحركات السياسية أم عن الأفراد، لم تؤثر كثيراً على اتجاهات البوصلة، لأنها في الأحول كلها كانت تنطلق من رؤية قومية لا تؤثر بها عوامل التعرية القطرية، ولا تزيلها التوجهات الأممية، وهذه الخلفية هي وحدها التي جوّزت لحملة الفكر القومي المضي في طريقهم، لا يلتفتون إلى المعترضين عليهم، بصرف النظر عن الأهداف والنوايا. ديمقراطية بريطانيا في الميزان هناك قناعة لدى معظم الباحثين في النظم القانونية والدستورية أن بريطانيا تمثل التجربة الأكثر صوناً لحقوق الإنسان وضماناً لحرياته، ويعتقد هؤلاء أن منظومات الديمقراطية وحرية التعبير في المملكة المتحدة، تتفوق على ما سواها من تجارب الدول الديمقراطية في العالم، وربما تأخذ الحالة بعداً نفسياً عاطفياً أبعد من واقعه، إذا ما تعامل مع هذه الحالة لاجئ سياسي عربي وجد في بريطانيا ملاذاً آمناً ومتنفساً نقياً لم يجد مثله في بلاده، ولم يتعود قبل ذلك على تنفس هواء الحرية في مسقط رأسه، فتأخذه دهشة المقارنة بين تجربتين، فيطرح تصورات مبالغ فيها، إلى حدود بعيدة عن فكرة التسامح والاحتواء التي تجري لدمج الغرباء في المجتمع الجديد، على الرغم من أننا نعي جيداً أن الديمقراطية في كل مكان ليست كائناً حياً مجرداً من المشاعر والأحاسيس ونوايا الخير والشر، وليست سلطة ناعمة على الدوام أو فك بلا أسنان، فهي سلطة القوة الخفية التي تحمي النظام القائم مع أقل التضحيات العلنية، ومع ذلك كله فإن بريطانيا خرجت من جلدها الضبابي قبل نحو ثلاثين عاماً، واضطرت للذهاب إلى عنف غير مسبوق على الأقل مع أزمة داخلية، ما تزال الذاكرة المحلية وخاصة الأيرلندية الكاثوليكية الشمالية، تعيش بعض مرارته إلى اليوم. قبل أسابيع عدة كنت أتابع لقاء على الـ(BBC) العربية، كان مخصصاً لمناقشة موضوع المعارضة البحرينية، وحصراً موضوع إضراب عن الطعام بدأه بعض السجناء، وذهبت الـ (BBC) إلى ما أسمته "عدم اكتراث الحكومة البحرينية بتداعيات الحدث”، ولا أعرف من أين استنزلت الإذاعة البريطانية ومن بعد ذلك التلفزيون، هذه المشاعر الإنسانية كلها عند الحديث في قضية الإضراب عن الطعام لبعض المعارضين البحرينيين، لأسباب ما تزال غير معروفة على وجه الدقة حتى الآن، وعلى أي حال فهذا شأن بحريني داخلي لا يحق لي أن أناقشه إلا انطلاقاً من المبادئ القومية التي جرى الحديث عنها في بداية المقال، ما أثارني هي الطريقة المنحازة التي تعاملت بها هيئة الإذاعة البريطانية مع هذا الملف، والذي يعكس رؤية مشتركة للإعلام الأمريكي والأوروبي، الذي يقوم بدور التحريض على الحكومة البحرينية في كثير من الملفات الداخلية، وهو دور مزدوج ولكنه متكامل في اتجاهاته مع السياسات الأمريكية والأوروبية، بشأن ما يسمى بحقوق الأقليات في منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي، ويمكن التقاط كثير من فصوله من معاينة سريعة لفضائيات الحرة الأمريكية والحرة عراق وهيئة الإذاعة البريطانية، وكأنها وجدت لملاحقة هذا الملف لوحده، وإلا فإن الوطن العربي يعيش اختناقاً سياسياً نتيجة السياسات العدوانية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، كما حصل في العراق منذ العام 2003، وما زالت الممارسات التي تشهدها السجون التي خلفها المحتلون الأمريكيون والبريطانيون، تشهد أبشع أشكال التعذيب والانتهاكات المنهجية التي لا تجد لها رصيداً في الصحافة الأمريكية والبريطانية، كما يحصل لقضايا تافهة يمكن أن تحصل في أي بلد، ولكن هناك من ينفخ فيها ويضخمها ويجعل منها قضية بلا رصيد حقيقي، وقد يحاجج بعض المجادلين بأن الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، هي التي كشفت كثيراً من ملفات التعذيب في السجون السرية في العراق، ربما يكون هذا حصل ولحالات نادرة ولا تشكل إلا قطرة من بحر، ولكن من صمم العملية السياسية في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، وأضفى عليها صفات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، لم يشأ التنكر لها أو التبرؤ منها، لأنه، إن فعل ذلك، فسوف يبدو كمن حمل سفاحاً في ساحة لها حساسية عالية مع العلاقات غير الشرعية.إضراب حتى الموتالمملكة المتحدة كما قلنا والتي تعد بمقاييس كثير من الشعوب التي خضعت للسيطرة الاستعمارية البريطانية، أرقى نموذج للتجارب الديمقراطية في العالم كله، وربما يبالغ كثير من المأخوذين بمفردات الحياة داخل بريطانيا، في اعتبار الديمقراطية البريطانية، الوحيدة في العالم التي يشعر المواطن والمقيم على حد سواء بدفئها وأصالتها، هذه البلاد عاشت تجربة امتحان لم تكن قادرة على تأكيد مصداقية الشعارات المرفوعة، وتستحق ألا تنسى، حينما يرتبط الأمر بأحكام القضاء، فالسلطة القضائية هي الأنياب التي تلجأ إليها الديمقراطية الغربية كلما شعرت بالتهديد. في الأول من مارس عام 1981م، بدأ النائب في مجلس العموم البريطاني الكاثوليكي عن إيرلندا الشمالية، والقيادي في الجيش الجمهوري الإيرلندي السري بوبي ساندز، إضراباً عن الطعام في السجن الذي وضع فيه، بموجب حكم قضائي ولم تشفع له حصانته البرلمانية في منع صدوره، بعد أن رفضت السلطات بإصرار طلبه بنقله من ردهة المجرمين العاديين إلى ردهة السجناء السياسيين، وقرر عدم فك الإضراب حتى الموت، ما لم تتحقق مطالبه وزملائه، ولكن حكومة السيدة مارغريت تاتشر، التي توصف تارة بأنها الرجل الحديدي وتارة بالسيدة الحديدية، تجاهلت الملف تماماً وكأن الأمر يحصل في الهند درة التاج البريطاني، أو في مستعمرة بريطانية في أفريقيا تعبث بأمنها حركة الماو ماو، وليس وسط المملكة التي كانت تتقلص ممتلكاتها مع الوقت، وصمّت الحكومة آذانها عن سماع الدعوات المطالبة بإيجاد مخرج من الأزمة على ضآلتها، ولم ينفع الضغط الذي مارسته العمليات المسلحة التي كان الجيش الإيرلندي السري ينفذها بين آونة وأخرى، لتليين قلب السيدة مارجريت تاتشر، ولم تنفع التغطية الإعلامية التي حظي بها هذا الملف الذي كان يتابع ساعة بساعة على وفق المساحة المتاحة له في ذلك الوقت، ووقف العالم عاجزاً أو متجاهلاً هذا النوع من القتل الرسمي من دون ضجة، كيف لا فتلك بريطانيا، وفي عاصمتها رسم خط الصفر في التوقيت العالمي، وقسم العالم إلى نصفين، الأول إلى شرقه والثاني إلى غربه فعاصمتها هي واسطة العقد، والتي لها الحق في إعطاء العالم شهادة احترام الزمن، ثم أنها هي شاقول الديمقراطية في عالم اليوم، كما كانت بلد السيطرة الاستعمارية في عالم الأمس، وكما ستتحول إلى بلد يجتر ذكريات الماضي في قابل الأيام.المرأة الحديديةولأن بريطانيا تحكمها امرأة حديدية هي السيدة تاتشر، وتمثل سيادتها داخلياً وخارجياً سيدة حريرية هي الملكة إليزابيث الثانية، عجز الرجال عن التدخل في بلد تقوده امرأة مدعومة بأغلبية برلمانية كبيرة، وتقف المرأة الأخرى على رصيف نص دستوري (مصون غير مسؤول)، في أحسن خيار لإبعاد النفس عن المساءلة الأخلاقية أو التاريخية، ومرت الأيام على بوبي ساندز وهو يتلاشى جسدياً ويعد نفسه لرحلة الأبدية بإصرار لا نظير له، ولم تتدخل الملكة ولو من جانب إنساني في وقف هذه المذبحة، حتى كان اليوم الخامس من مايو1981م، أي بعد خمسة وستين يوما من الإضراب عن الطعام، فأعلنت الحكومة والجيش الجمهوري في لقاء على رصيف شارع الصحافة، عن رحيل ساندز الذي رفض برجولة أن يحقن بالمغذيات الكيمياوية كما يفعل اليوم باحثون عن الشهرة ودائرة العنوان من دون تضحية حقيقية، ولم تتحرك منظمات حقوق الإنسان، وقتذاك، كما يحصل اليوم، ولم تفرد هيئة الإذاعة البريطانية حينذاك تغطية خاصة، لعرض القضية في جانبها الإنساني، في الأقل، وإن كانت وظفتها توظيفاً تجارياً وسياسياً في المنافسة مع محطات التلفزيون الأخرى، من باب السبق الصحافي وجلب المعلنين، تلك هي بريطانيا العظمى، شاقول توقيت الأرض، وشاقول الديمقراطية لسكان المعمورة، ولا أحد يرغب في إزعاج بلد كان يحكم من سيدتين واحدة ترتدي قفازاً من حديد والأخرى ترتدي قفازاً من حرير، وبعد ساندز الذي خطف أكبر قدر من الاهتمام الإعلامي وسط تعتيم مقصود، توالى رحيل أعضاء الجيش الجمهوري المضربين عن الطعام، بصمت أو اهتمام أقل رسمياً وشعبياً وإعلامياً، بعد إصرارهم عليه حتى الموت، ولكن المملكة المتحدة التي تصر على أن تكون وصية على مستعمراتها السابقة، تنسى الجانب المظلم من تاريخها القريب وتأبى لغيرها ما كانت بدأته بنفسها وتصر على تأدية دور القاضي في محاكم حقوق الإنسان، التي خرجت منها مدانة بالقتل المتعمد، في شوارع بلفاست ولندن ديري وعلى أسرة الموت التي قضى فوقها ساندز من لحق به فيما بعد.في البحرين إضراب.. ولكن!موضوع الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي كانت نشاطاته التي توصف بالإرهابية، ظلت مثار خلاف وانقسام ليس على المستوى المحلي، وإنما تتجاوز حدود إيرلندا والمملكة المتحدة، لتعبر المحيط الأطلسي حيث قدمت منظمات كاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية مختلف أشكال الدعم له، على حين أن السياسة الأمريكية كانت تقف بحزم إلى جانب الحكومة البريطانية في خططها لحل المشكلة، وربما دخل العقيد القذافي على خط دعم الكاثوليك في إيرلندا الشمالية، في واحدة من حالاته المثيرة للجدل، على العموم هذا ملف فيه أشواك كثيرة ولا نريد الخوض في تفاصيله العملياتية وحتى السياسية، إذ تراجع أنصار الجيش الجمهوري الإيرلندي السري عن خط العمل العسكري، وذهبوا إلى خيار العمل السياسي، بيد أن الجانب الإنساني الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة مع خروج الروح من جسد بوبي ساندز، هو ما يستدعي وقفة تأمل هذه الأيام، إذا ما قارنا تلك القضية بقضايا مماثلة حصلت في البحرين مؤخراً في الأقل من حيث الشكل، مع أن الفرق كبير وشاسع بين النموذجين من حيث الأهداف والمضامين، فالأول وهو الجيش الإيرلندي السري وذراعه السياسية، يسعيان إلى توحيد الجزء الشمالي من بلدهما مع الوطن الأم، أي إيرلندا الجنوبية استناداً إلى وحدة العرق، ولنهمل القضايا الأخرى، ولكن الثاني أي أولئك الذين حاولوا احتلال واجهة الأحداث عبر احتجاجات تلفزيونية، فإنه يعمل لإلحاق بلد عربي لم تخالطه عجمة في تاريخه كله، ببلد ينتمي إلى عالم آخر مختلف معه في العرق واللغة والتاريخ والجغرافيا، ويريد أن يتجاوز على حق طرف آخر داخل المجتمع البحريني، يرى في تلك السياسة تعدياً صارخاً على الديمقراطية، لأنه يريد اقتطاع بلد عن أصله وسلخه عن أمته ومنحه هدية لعدو، استناداً إلى خيار يقفز فوق الهوية الوطنية والقومية، ولا يستند إلا على أساس طائفي لم يعد له في تاريخ الأمم المتمدنة من حيز أو فراغ، بل أن هذا المذهب الجديد أي ولاية الفقيه الذي خرج من المذهب الجعفري الإثني عشري، وصمم على افتراسه ما زال محل جدل ساخن ورفض حاد، من جانب معظم شيعة العالم على الرغم من أنه يتسلح بأدوات السلطة الإيرانية من قوة عسكرية ومال سياسي، ولو أن المذهبية كانت أساساً صالحاً لتوحيد الأمم أو إلحاق صغيرها بكبيرها، لوحّد المذهب البروتستانتي ألمانيا التي نشأ فيها المذهب على يد مارتن لوثر مع إنجلترا، استناداً إلى وحدة المذهب، ولكن هذا ما لم يحصل، بل على العكس من ذلك فالتباين المذهبي لم يمنع فرنسا الكاثوليكية من التحالف مع بريطانيا البروتستانتية، ضد المحور الذي قام بين مركز الكثلكة في العالم أي إيطاليا مع ألمانيا البروتستانتية. ولكن الوطن العربي الذي يتعرض لحركة تغريب متعددة التوجهات والأهداف، وخطط لسلخ أجزاء منه وإلحاقها ببقايا إمبراطوريات تريد الخروج من مرحلة السبات الطويلة، وضم بعض أقطار الوطن العربي إلى ممتلكاتها باسم الإسلام والمذهبية، نشأت فيه أكثر الحركات الشعوبية حقداً على الأمة العربية، والتي يراد لها أن تكون قوة الصدمة الأمامية بوجه تيار الوحدة القومية، عن طريق الدعوة إلى الوحدة على أساس وحدة الانتماء لفتق صغير داخل المذهب يعرف بولاية الفقيه، والقفز فوق حقائق القومية وحواجزها.لكن إضراب الطعام الذي أعلن في البحرين، لم يمر من دون حملة شحن للأجواء، أو حشد للمشاعر، وهو ما لم يحصل لإضراب بوبي ساندز، ربما لتبدل الظروف ونمو وعي الشعوب بمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك تزامنه مع ثورة الاتصالات من جهة، ومحاولة الغرب الترويج لثورة الربيع العربي من جهة أخرى، هذه العوامل كلها لعبت دوراً في هذه القضية بالذات، ومع ذلك فإن محكمة التمييز البحرينية كانت في تعاطيها مع هذا الملف أكثر عدالة من القضاء البريطاني العريق في تقاليده، وأكثر إنسانية مما تعاملت به الحكومة البريطانية مع ملف ساندز، حينما أمر القضاء البحريني بإعادة المحاكمات أمام محكمة الاستئناف، وفي هذا القرار يتجسد استقلال القضاء في البحرين، ودعم الملك والحكومة لهذه الاستقلالية المطلقة، فهل كانت البحرين التي خضعت للاستعمار البريطاني حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي، أكثر دقة في التعامل مع الملفات الإنسانية حتى من مدرسة الديمقراطية في العالم؟ أم أن العرب يتعاملون بعاطفة مع الملفات السياسية والجنائية؟ وهذا ليس من طبائع الدول المتمدنة.ومن مفارقات المشهد الراهن في البحرين، أن الأحزاب الطائفية التي تتبنى نظرية ولاية الفقيه، والتي يمكن أن ينظر إليها على وفق هذا التوصيف، على أنها قاعدة إيرانية متقدمة في منطقة الخليج العربي، لتنفيذ أوامر إيران ونواهيها، حينما كانت تخرج بتظاهرات احتجاجية، وتقطع الطرق وتحتل الميادين العامة ومؤسسات الدولة وتعبث بموجوداتها، فإنها إنما كانت في خطواتها تلك، تريد إلحاق البحرين بالإمبراطورية الفارسية الجديدة، التي غيرت خطابها العلماني إلى خطاب ديني يتلفع بعباءة الولي الفقيه، ولكنها حينما تم طرح مقترح وحدة دول مجلس التعاون الخليجي، أو على الأقل البحث عن آليات لوحدة ما بين المملكة العربية السعودية والبحرين، أعلنت رفضها للفكرة أصلاً، حتى من دون أن تسقط الفرض عن نفسها، بقراءة المقترح ومنح نفسها وقتاً لدراسته قبل إعطاء رد فعل متعجل أسقطها في فخ الغرض المبيت والمعبر عن مناكفة سياسية ساذجة أو بليدة. ظل القوميون العرب (ولا أقصد بهم حركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور جورج حبش)، يعطون أرجحية لهدف الوحدة على سائر الأهداف الأخرى، لأنهم يعتقدون أن الوحدة هي طريق تحرير فلسطين، وهي طريق التكامل الاقتصادي والتطور على مختلف الأصعدة الاجتماعية، وبعض العرب رفعوا فيما مضى شعار: (العراق بروسيا العرب)، وأضاف آخرون جملة أخرى إلى ذلك الشعار وهي: (فمتى يظهر بسمارك؟)، أي أن بعض العرب كانوا يرون في استخدام القوة طريقاً مشروعاً للوصول إلى هدف الوحدة كما وحّد بسمارك ألمانيا، ويبنون حساباتهم على أن الشعب العربي قد لا يقدّر مزايا الوحدة وخيرها، إلا بعد أن تتحقق على الأرض ويبدأ موسم حصادها، أي بعبارة أخرى: إن من كان يدعو إلى تحقيق هدف الوحدة، لم يضع في ذهنه إجراء استفتاء شعبي حول الهدف، لسبب بسيط وهو أن الوحدة عودة إلى الحالة الطبيعية من الحالة الشاذة التي وصل إليها الوطن العربي، فالاستعمار كإطار عام، واتفاقية سايكس بيكو كنص سياسي، جعل من الكيان القطري كياناً مقدساً، وهو الذي فقس ونما في عش تلك الاتفاقية.لكن الظروف تبدلت منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اليوم، وباتت الاستفتاءات طريقاً مقبولاً حتى مع ما يرافقه من تلاعب، لرفض الأفكار السياسية أو تمريرها مع أقل قدر من ردات الفعل الغاضبة، وبات من حق كل طرف أن يدعو إلى أهدافه بطرق سلمية، ولكن ثقافة المظلومية والغبن، لا يبدو أنها ستغادر عقول من لن تأتي نتائج الانتخابات والاستفتاءات على مزاجه الساخن، فينزل إلى الشارع حتى إذا كان موقناً تماماً بهزيمته في صناديق الاقتراع، فهذه عقلية السيطرة والاستحواذ باسم الديمقراطية، طالما أن أحداً لن يستطيع تأكيد مصداقية الأرقام التي خرجت من صناديق الاقتراع، وطالما هناك قوى على استعداد لتبني مثل هذه الأفكار المتسرعة والترويج لها إعلامياً لتأزيم المشهد السياسي، والبحث عن شماعات تعلّق عليها الإخفاقات السياسية.الوحدة الخليجيةالدعوة لتطوير شكل من أشكال الوحدة بين دول مجلس التعاون الخليجي، والتي يبدو أن خطوتها الأولى والمتاحة بإلحاح استراتيجي أكثر من سواها، ستكون بين الرياض والمنامة، وعلى لسان أكثر من مسؤول في مجلس التعاون، لن تلغي الخصوصية الوطنية لأي من الأطراف الداخلة في تجربة الاتحاد المقترحة، وإذا تجاوزنا بعض المفاهيم التي تطرحها القوى البحرينية المرتبطة بإيران، والتي لن يرضيها أقل من تحويل البحرين إلى قرية مهملة في الإمبراطورية الفارسية، فإن في الاتحاد الخليجي المقترح فرصة كبيرة لتطور الاقتصاد البحريني اعتماداً على الاستثمارات السعودية الكبيرة التي تبحث لنفسها عن بلدان قادرة على استيعابها. أما في مجال الأمن القومي، فإن الاتحاد سيوصل رسالة إلى إيران بأن البحرين ليست وحدها، لتكون قطعة سندويش سهلة الالتهام على مائدة مجلس الأمن القومي الإيراني، بل هي أكبر بكثير مما يتوقع الإيرانيون. في الاتحاد المقترح ضمان للأمن الجماعي لدول الخليج العربي، وتوظيف للإمكانات المتاحة في أبوابها الصحيحة، وهذا قطعاً لا يروق لإيران وفروع حزب الله المنتشرة في ساحات عربية كثيرة ولكنها بأسماء مختلفة.