بقلم : عبدالستار الراويمع بدء العدوان الأمريكي على العراق، كثفت إيران إجراءاتها الأمنية تجاه السفارة العراقية، وشددت رقابتها على حركة أعضاء البعثة وموظفيها، فبثت العيون على الوافدين إلى مبنى السفارة والخارجين منه، وزجت بعناصر استخبارات الحرس الثوري، وألبستهم رداء مدنياً، تناثروا في المقتربات وعلى النواصي، وأقامت الشرطة الدبلوماسية عدداً من نقاط الرصد والمراقبة ثابتة ومتحركة قرب منازل إقامة أعضاء وموظفي البعثة، وجرى تعزيز نقطة المخابرات الثابتة أمام السفارة، وهي نقطة كاملة التجهيزات ومزودة بخدمات الهاتف والفاكس وجهاز استنساخ، وبعهدتها دائرة تلفزيونية مغلقة، تعمل بثلاث وجبات ليلاً ونهاراً وعلى مدى 24 ساعة، ولم تبارح المخابرات مكانها منذ قيام الثورة الإيرانية في العام 1979، ومن بين مهماتها، عدا الرصد والمراقبة، مهمة جمع المعلومات وتدقيقها، وتدوين البيانات الشخصية للمترددين من العراقيين والايرانيين على حد سواء، ومن واجباتها أيضاً تصوير المستندات ووثائق المراجعين، وتجري عناصرها، في أحيان كثيرة، تحقيقاً مع المراجعين عند خروجهم من السفارة، وقد تلجأ إلى احتجاز بعضهم.إعاقة عمل البعثةبقيت هذه المضايقات وأساليب إعاقة عمل البعثة جزءاً من معاناتنا اليومية.. وحاولنا مع الخارجية الإيرانية مرات عديدة حل هذه المعضلة، مرة عبر مذكرات عديدة وأخرى من خلال اللقاءات المباشرة وفي مناسبات كثيرة، وكنا في كل مرة نسمع وعوداً وتطمينات، ولكن للأسف لم يجر تنفيذ أي تعهد بهذا الشأن. في اليوم الرابع للعدوان الأمريكي، وتحديداً صباح يوم الاحد 23مارس 2003 ، لاحظنا زيادة أجهزة المراقبة (التلفزيونية) بنصب الجهات الأمنية ثلاث كاميرات جديدة ليصبح عددها ست كاميرات أقيمت على أسطح العمارات والمنازل المجاورة تنفتح عدساتها على حوض المبنى، وعلى النوافذ والأبواب، ولفت نظرنا أنها نصبت على ارتفاعات شاهقة نسبيا، وجرى تثبيتها على أعمدة حديد، وتجري إدارة كاميرات المراقبة الست والتحكم بحركتها عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة في نقطة المخابرات الثابتة والمرابطة أمام المدخل الرئيس للسفارة. أصبح مبنى السفارة ومنذ الأيام الأولى للحرب ملتقى إعلامياً شبه يومي للمراسلين المحليين العرب والأجانب من ممثلي الوكالات الخبرية ومندوبي الصحف المحلية ومكاتب الفضائيات، وكانوا يمثلون نوازع واتجاهات سياسية شتى بينهم المؤيد المتعاطف والحقود الشامت، ما بين الاسئلة الموضوعية والاسئلة المستفزة، صراع ما بين الشك والأمل، فيما كانت معركة أم قصر تثبت اليقين أن النصر على الغزاة آت حتماً. وتصدرت بسالة المدينة أخبار العالم وأشاد بها الرئيس صدام حسين نفسه عبر خطاب بث من الفضائية العراقية يوم 25 مارس 2003 وتناقلته وكالات الأخبار ومحطات التلفزة العالمية.تسلمنا يوم الأربعاء 27 مارس 2003 الموافق لليوم السابع للغزو الأمريكي، مذكرة عبر الخارجية الإيرانية تؤكد فيها طلباً قدمه السفير الإيراني في بغداد بشأن استحصال موافقة الخارجية العراقية على منح تأشيرة فريق إعلامي مؤلف من نحو عشرين شخصاً للالتحاق بمكتب فضائية العالم الإيرانية في بغداد، لغرض تغطية وقائع الحرب الأمريكية. حاولت سفارتنا، من جهتها، الوقوف على طبيعة المهمة من حيث المرامي والغايات والتأكد من هوية أسماء الفريق .. وتلقينا في اليوم نفسه مكالمات هاتفية من (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون والخارجية ووزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي)، تحثنا على منح التأشيرات. فوجئنا صباح الأربعاء 26 مارس 2003 وفي وقت مبكر بمرابطة أفراد الفريق الإيراني أمام باب البعثة. وتبين للسفارة بعد التحقق من البيانات التفصيلية لكل فرد من أعضاء الفريق أن (15) شخصاً من أصل (20) من العاملين في استخبارات الحرس الثوري، اتخذوا من مهنة الإعلام غطاءً لهم، ولم تتوقف الجهات الإيرانية عن إلحاحها اليومي في طلب التأشيرات. متابعة السفراء العرب كان السفراء العرب يتابعون بأنفسهم مستجدات الوضع على جبهات القتال، وحرص الكثير منهم خلال أيام الحرب على زيارة السفارة، بصفة دورية، للوقوف على آخر الانباء، فيما خصصت الإذاعة الإيرانية (الناطقة بالعربية) الساعة التاسعة صباحاً موعداً للاجابة عن أسئلة المستمعين عن مجريات الحرب على جبهات القتال، ودأبت فضائية العالم الإيرانية على خلط الأوراق، وعمدت خلال نشراتها الإخبارية على اتباع سياسة التضليل والمخادعة في صياغة التعليقات وفي بث صور المعركة على نحو يوحي بتراجع الجندية العراقية أمام القوة الامريكية الهائلة. وعلى نهج مافيا الإعلام المعادي أخذت (العالم) تعيد ترويج الشائعات الأمريكية: إن أم قصر سقطت بيد قوات الولايات المتحدة، وإن الفاو سقطت هي الأخرى، وأسهمت وسائل البث الإيرانية في هذه الحرب النفسية، فأذاعت بنها تلقت خبراً عاجلاً عن سقوط الناصرية، وأن الجيش الأمريكي تمكن من أسر آلاف العراقيين وأن الفريق أول قائد الفرقة الحادية والخمسين سلم نفسه هو ونائبه لتعود فضائية العالم، بعد ذلك، وتعدل كذبتها بالقول إن الذي استسلم هو قائد كتيبة من الفرقة المذكورة، كما عدّل الأمريكيون والبريطانيون بياناتهم عن سقوط أم قصر ليعترفوا أنهم يلاقون مقاومة شديدة فيها لليوم الرابع على التوالي. تضليل إعلاميوبالتزامن مع حملة التضليل وتكريس الانطباعات السلبية كرست (العالم) برامج يومية مكثفة لممثلي أحزاب المعارضة، الذين كانوا يتنافسون فيما بينهم على إظهار التأييد للغزو الأجنبي، بدعاوى المظالم البعثية والدكتاتورية الصدامية ، فيما كانت المداخلات المعدة من داخل استديوهات القناة الإيرانية تفيض بشعارات لا تخلو من الشتائم المقذعة والسباب الرخيص.. هكذا جعلت طهران من وسائلها الإعلامية منبراً لتسويغ العدوان الانجلو أمريكي، ويسبغ صفة التحرير على الغزو الهمجي ولا ينسى المعارضون المتحدثون وأصحاب المداخلات أن يكيلوا الثناء للجمهورية الاسلامية التي آزرت أحزاب المعارضة وأعانتهم على مقارعة صدام حسين عدو إيران الأكبر، ويترقبون اليوم نبأ سقوط العراق، وانتصار قوة (التحرير).. وعلى الرغم من عاصفة الكراهية العمياء لأحزاب ولاية الفقيه، التي أججتها فتاوي مراجع (قم) إلا أن الصوت الوطني العراقي المناهض لحرب واشنطن كان يسجل احتجاجه داخل إيران نفسها، وكان يلقي باللائمة على الوكلاء والدخلاء، وكان في آخرة أيامه يقيم الحجة على أحزاب المعارضة التي أكدت مواقفها أنها ليست أكثر من هوامش وذيول لخدمة المشروع الأمريكي والأطماع الايرانية، وتلقت السفارة عشرات الطلبات من عراقيين مستقلين ووطنيين يعلنون فيها وقوفهم إلى جانب شعبهم في مواجهة قوى الشر الامريكية، فيما نشطت المعارضة في صفوف الجالية العراقية في طهران والمدن الأخرى بعقد الملتقيات السياسية والندوات تبشر فيها بالفوز القريب بوصفها البديل المنتظر لنظام صدام حسين، وأن أحزاب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة العمل سيحققون الحلم الكبير بدولة دينية تستمد بركاتها من التجربة الأم في الجمهورية الإسلامية، فيما كانت هذه الأحزاب تجتمع في النهار وتتصارع طوال الليل، ولم تتعد أسباب الاشتباكات بين (الأخوة الأعداء) سوى حجم الحصص السياسية وكيفية توزيعها على الفرقاء حال الانتهاء من النظام السياسي في بغداد، وألقت خلافات المحاصصة بظلالها (التي ستظل قائمة لاحقاً) على افتتاحيات صحف المعارضة ذاتها والتي كانت تصدر في طهران، خاصة جريدة "الجهاد” الصادرة عن حزب الدعوة وجريدة "لواء الصدر” لسان حال محمد باقر الحكيم. منذ بدء العدوان وحتى اليوم الأخير للغزو الأمريكي تقاطر على السفارة عشرات المتطوعين من مختلف الشرائح والقوميات، يطالبون بتسهيل إجراءات سفرهم إلى العراق، وواصل المتطوعون تقديم طلبات التطوع على مدى الأيام العشرين للحرب، ولم يك أحد منهم يبالي بالعواقب الامنية الراهنة والمحتملة جراء إعلانهم أن معركة العراق هي معركة الاحرار كلهم في العالم وعلى جميع المسلمين مقاومة العدوان البربري، وتحتفظ ذاكرة البعثة العراقية في طهران، بصور مضيئة لتلك المبادرات التي تقدم بها الشباب العربي في الأحواز، ومواطنون إيرانيون من مختلف المحافظات الإيرانية. تحدي ولاية الفقيهولا ينسى الكاتب أن يحيي شجاعة الأصدقاء من الشعب الإيراني الذين تحدوا جبروت ولاية الفقيه وأجهزتها الرقابية وغامروا بأنفسهم وهم يتواصلون معنا عبر المكالمات الهاتفية التي انهالت على السفارة خلال محنة الأيام الأخيرة وكان معظمهم من الشرائح المستنيرة من مثقفين وكتاب وفنانين وأساتذة جامعات. مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية في العراق، ومع توافد المتطوعين العرب إلى العراق لقتال القوات الامريكية ألقت ايران القبض على 250 متطوعاً من عرب الأحواز والبلوش والآذريين أثناء اجتياز الحدود للانضمام إلى جبهة الشعب العراقي لقتال الأمريكان، ومنعت طهران توجه العشرات من جماعة أنصار الإسلام إلى العراق، عبر الحدود الإيرانية الجبلية، وأجبرتهم على الاستسلام للقوات الأمريكية والبيش مركة، فيما سمحت الجمهورية الإسلامية للطائرات الامريكية استخدام المجال الجوي بالتحليق فوق أراضيها خلال الهجوم على معسكر أنصار الإسلام، وغضت الطرف عما حدث من مجازر.وعبرت الجمهورية الإسلامية عن تواطئها مع آليات الحرب الامريكية عندما بادرت بنصب الخيام على الحدود مع العراق للإيهام بأن هزيمة العراق باتت مؤكدة وأن ما على العراقيين إلا الهرب واللجوء إلى إيران. كان غالبية السفراء العرب المعتمدون في طهران مهمومون بأخبار الحرب وكانوا يمنون النفس بانتصار العراق واندحار الغزو العدواني، وأظهروا مشاعر طيبة يصعب نسيانها أو تجاوزها وخاصة في معركة المطار، وفي محنة الأيام الثلاثة الأخيرة، وبالقدر الذي يستذكر كاتب السطور زملاءه من العرب، فإنه يستذكر أيضاً رؤساء البعثات الدبلوماسية الصديقة، الذين أبدوا تأييداً حاراً لمقاومة الشعب العراقي للقتلة والغزاة. الأربعاء التاسع من أبريل1- الهجوم على منتسبي البعثة العراقية وعائلاتهم: في الساعة الثالثة بعد الظهر بتوقيت طهران من يوم الأربعاء 9 أبريل 2003 تعرضت السفارة العراقية في طهران إلى اعتداء مبرمج قادته قوات الحرس الثوري ومليشيات حزب الله، وحاول المهاجمون النيل من أعضاء البعثة الدبلوماسية ورئيسها، وأسمعونا من الشتائم وبذيء الألفاظ ما يعف القلم عن تدوينه، فيما قطعت السلطات الحكومية الاتصالات والكهرباء عن مقر البعثة، وجرى تطويق المكان بالمسلحين.. أبلغ كاتب السطور بوصفه سفيراً للعراق، رئيس السلك الدبلوماسي، السيد صلاح الزواوي (سفير فلسطين) أن منتسبي البعثة العراقية مع عائلاتهم (الاطفال والنساء) والبالغ عددهم (57) محاصرون داخل مبنى السفارة تحت تهديد السلاح، ومطلوب منه سرعة التحرك لحماية أرواح العراقيين، وأن يعدّ المكالمة الهاتفية بلاغاً رسمياً، وعليه أن يتحمل مسؤوليته. 2- أجريت اتصالاً هاتفياً آخر بممثل قناة أبو ظبي في طهران، وأخبرته بتفاصيل الحدث، وطلبت منه أن يكون شاهد عدل وأن يبث الخبر بأسرع وقت، في الوقت الذي امتنعت وزارة الخارجية الإيرانية عن الرد على اتصالاتي الهاتفية المتكررة.في نحو الساعة السادسة والنصف مساء تلقيت مكالمة من مسؤول دائرة الخليج ينبؤني فيها أن الغاية من تطويق السفارة بالمسلحين هي لحماية السفارة ومنتسبيها من الغضب الشعبي!! 3- في السابعة من مساء اليوم نفسه تم نقلنا جميعاً بحافلتين كبيرتين ذات نوافذ معتمة تمنع الرؤية لنكتشف أننا في فندق الاستقلال، وأدخلونا من الأبواب الخلفية، وأسكنونا في الطابق السابع تحت حراسة قوات الحرس الثوري. الخميس العاشر من أبريل 1- أعربت الصحافة الإيرانية في افتتاحياتها عن ارتياحها لاحتلال العراق بدعوى الثأر من الرئيس صدام حسين وأنه يستحق هذه النهاية بسبب حربه ضد الجمهورية الإسلامية، وجراء (المظلومية) التي أنزلها بالعراقيين. وغطت الصفحات الرئيسة للصحافة الإيرانية صور تمثال الرئيس صدام حسين في ساحة الفردوس وهو يهوي على الأرض على أيدي قوات المارينز وأعلنت كيهان وأبرار ورسالت وبعبارات موازية أن سقوط صدام حسين في هذا اليوم يعد من الاعراس الوطنية للشعبين الايراني والعراقي.. وأكدت الصحافة المحافظة أن العراق أصبح حالياً مستعمرة أمريكية تسيطر عليها قوات المارينز مشددة على أن على إيران أن تحافظ على مصالحها في العراق، وأن تتحرك في هذا الاتجاه. من جهتها، رأت الصحافة الإصلاحية ضرورة عدم اتخاذ مواقف متشددة حيال الولايات المتحدة بسبب حضورها الكثيف في العراق خلال المرحلة المقبلة مما يمكن أن يضر وبنحو كبير بالمصالح الوطنية الإيرانية، مؤكدة أن موقف المحافظين الإيرانيين حيال تطورات العراق ينقصه الحكمة والعقلانية.2- تظاهرات الأحزاب الولائية: بث التلفزيون الإيراني لقطات من الأفراح والليالي الملاح التي سادت أجواء أحزاب المعارضة: مجلس الحكيم وحزب الدعوة ومنظمة العمل، عبروا فيها عن سرورهم لسقوط نظام الرئيس صدام حسين، وطالبوا بإقامة نظام إسلامي!! فيما أظهرت فضائية العالم تظاهرة تقودها مليشيات حزب الله الإيراني ترفع صور الخميني وخامنئي تجوب شوارع العاصمة. 3- اجتماع الخميس كيف استفادت إيران من سقوط نظام صدام حسين؟ فى مساء يوم 10 أبريل 2003 اجتمعت القيادة السياسة الإيرانية لبحث تطورات الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط وأثر سقوط نظام صدام حسين على المنطقة بصفة عامة وإيران بصفة خاصة، وتبين للقادة الايرانيين من خلال تقارير الاستخبارات أن طهران حققت مكاسب عديدة بسقوط نظام صدام حسين منها:أ- التخلص من نظام لم يخف عداءه لإيران. ب- إن الحرب الأمريكية قضت على أسلحة الدمار الشامل العراقية المحتمل وجودها بالعراق وهو ما يخدم المصلحة الأمنية الإيرانية، خاصة وأن صدام حسين استخدم الأسلحة الكيماوية ضد إيران فى حرب الثمانينات!! ت- إن تغيير النظام فى العراق سوف يعزز من مكانة ايران داخل العراق بإتاحة فرصة أعظم للأحزاب الموالية لها للمشاركة فى السلطة العراقية التى ستصبح بالتبعية موالية للنظام الإيرانى . ث- - العمل على تنامي التقارب السياسى بين طهران والنظام العراقي الجديد خاصة وأن النظام الإيراني يتمتع بمرونة غير عادية وظهر ذلك فى تعاملها مع حكومة قرضاي الأفغانية، وهو ما يؤكد زيادة فرص تطور العلاقة الإيرانية العراقية مستقبلاً.
International
إيران.. ردود فعل حاقدة يوم احتلال بغداد ومحنة الدبلوماسيين
17 يونيو 2012