بقلم – محمّد محمّد الخطابي: «الوادي الكبير” رواية تاريخية للكاتب الإسباني”خوان إسلافا غالان”، تحمل اسم أكبر الأنهار الأندلسية ، الذي لا يزال يحمل اسمه العربي القديم مبثوثاً ومستعملاً في اللغة الإسبانية حتى اليوم، والذي اقترن بمدينة إشبيلية العامرة. و هو ما انفكّ ينساب في سكون بمحاذاة العديد من المعالم والمآثر العربية الخالدة بهذه المدينة الأندلسية الساحرة، مثل قصور إشبيلية العربية، وبرج الذهب الذي يعتبر من أعظم القلاع الحصينة في القرون الوسطى، وصومعة "لا خيرالدا” الأخت التوأم لصومعتي "حسّان " بالرباط و«الكتبية” بمراكش بالمغرب، وسواها من الذخائر والنفائس المعمارية الأخرى الفريدة التي ما فتئت تحيّر وتبهر الناظرين.إن من المميزات التي طبعت الأدب في البلدان الأوروبية في العقود الأخيرة، هو وسمها واكتشافها لمناطق ثقافية معينة في العالم، حيث كانت الخمسينيات عقد "أمريكا الشمالية” مع الجاز، والرواية السوداء. وكانت الستينييات "أوروبية " و«آسيوية” تحت شعار الحركات والتقاليع الهيبية مايو 67، واليوغا والتأمل. وكانت السبعينيات أعواماً أمريكية لاتينية "مسّيسة”، وكانت الثمانينيات "أفريقية” تحت شعار المحافظة على البيئة والثقافة السوداء ومناهضة العنصرية. وكانت التسعينيات أعواماً "عربية”و قد افتتحت هذه الحقبة بحدث دموي وهو حرب الخليج.الاكتشاف الأوروبي للثقافة العربيةإن الضمير الغربي أدار بصره نحو الثقافة الإسلامية التي حوربت منذ سنين، وألحق بها غير قليل من الافتراءات والتضليل، والأكاذيب والأباطيل. ورغم الإشعاع الحضاري الذي عرفه العرب عبر التاريخ في أوروبا، فإن ثقافتهم ما زالت غير معروفة بما فيه الكفاية ولم تسفر عن كنوزها، بل إنها ما زالت مجهولة عند معظم الغربيين. ربما كان هذا الجهل أو التجاهل عن قصد في بعض البلدان الأوروبية التي تجد نفسها أكثر قرباً من البلد الذي انبثق وتفجّر فيه”الاكتشاف الأوروبي” للثقافة العربية، والتعرّف على قيمها الأصيلة، وتراثها الزاخر، وهي إسبانيا، التي استغرق الوجود العربي بها ما يربو على الثمانية قرون، والتي خلّفت الثقافة العربية الإسلامية فيها آثارها وبصماتها الواضحة في مختلف مناحي العيش والحياة. إنّ إسبانيا اليوم تعرف وتعيش فترة تأمّل وتفكير ومراجعة مع جيرانها الأقربين منها في التاريخ والجغرافية، والفكر والثقافة واللغة. وتشكّل هذه المراجعة بحثاً عن ذاتها وجذورها قبل غيرها، أي التنقيب عن جانب مهم وحيوي من تاريخها، الذي ترى فيه نفسها وتجد فيه هويّتها الحقيقية، وينابيعها الثقافية والحضارية، وأصولها وتأثيراتها "الجينية” والعرقية التي لحقتها من جرّاء تعاقب أجيال الفاتحين الذين توافدوا عليها، ثمّ أقاموا وقطنوا، أو استقرّوا أو مرّوا، أو ولدوا وترعرعوا بها على امتداد العصور والدهور. والتي ظهرت أساساً، وتبلورت وتطوّرت، وازدهرت وتفتّقت، وتألقت و تلاقحت نتيجة اختلاطها وتعايشها وتمازجها، وانصهارها وتزاوجها خلال الوجود العربي والإسلامي بها. بانوراما واسعة متعدّدة الجوانب انطلاقاً من هذا البحث المهووس، والاهتمام البالغ بالثقافة العربية في إسبانيا، التي أصبحت تعرفه مختلف الأوساط الثقافية في العديد من المناطق والربوع والأصقاع الإسبانية، تدخل رواية "الوادي الكبير” للكاتب الإسباني "خوان إسلافا غالان”. -من مواليد مدينة جيّان 1948 م- فهو يقدّم لنا بانوراما واسعة متعدّدة الجوانب والأبعاد، انطلاقاً من وجهة نظر عربية حول الصراع بين "القشتاليين” و«المسلمين” لبسط نفوذهم، وتمكين سيطرتهم على المناطق الواقعة بمحاذاة الوادي الكبير في النصف الأوّل من القرن الثالث عشر الميلادي. كما تقدّم هذه القصة التاريخية نظرة روائية معمّقة حول الصراعات التي كانت تنشب، والخلافات التي كانت تحتدم بين الخلفاء المسلمين في إسبانيا المسلمة، والتي انتهت بتدخل "الموحّدين” في شبه الجزيرة الإيبيرية، مثلما تدخّل” المرابطون” فيها من قبل. كما تقدم الرواية نظرة وصفية وتحليلية دقيقة للحياة اليومية، والعادات والتقاليد التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والعلاقات التي كانت قائمة بين مختلف الثقافات الأخرى التي تعانقت وتعايشت في ظل الحضارة العربية (المسيحية واليهودية). كما يجعل الكاتب من مدينة "جيّان” الأندلسية وهي مسقط رأسه، نقطة انطلاق لأحداث روايته وتحريك شخصياتها. حيث يمتزج عبق التاريخ بقصص الحب، وتباريح الجوى والصبابة، فضلاً عن الخدع والمكائد، والدسائس التي كانت تحاك في البلاطات الخليفية، والنزاعات والصراعات، والمشاحنات والمشاكسات التي كانت تنشب بين الأسرة الحاكمة في المدينة، والتي كانت تتركز أساساً في مواجهة أعدائهم وردّ زحفهم. فبطل الرواية "سليم” يذهب إلى موعد غرامي في أطلال من بقايا مآثر الموحدين في سهل الوادي الكبير. وهناك يلتقي فارساً يحتضر من الفرسان المدجّجين الذين كانوا يؤمّنون سبل المارة والحجّاج. وأسرّ له هذا الفارس بوجود كنز ثمين ذي قيمة روحية عظمى دفين في مكان مّا يبحث عنه المسلمون والمسيحيون على حدّ سواء. ويعيش "سليم " فارّاً حائراً متخفياً ممّن يتعقبون أثره لينتزعوا منه السرّ الذي باح له به الفارس الغامض قبيل مفارقته الحياة. يشير الكاتب أن التاريخ قد سجّل لنا في الفترة المتراوحة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين حدثاً عرف "بتوسيع مملكة قشتالة”، أيّ ما أطلق عليه المؤرخون بـ:« حروب الاسترداد”. وقد تمثل هذا الحدث في الصراع الذي دارت رحاه من أجل فرض الهيمنة على الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الإيبيرية. ففي العام 1212م أمكن للنصارى بسط نفوذهم بقيادة ملك قشتالة (فرناندو الثالث) الذي كان يلقب بالقدّيس، على مدن ومناطق مهمة من الحيّز الجغرافي العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية المعروف بالأندلس في الثغر الأدنى، بما فيه ضفاف وأرباض وسهوب نهر الوادي الكبير. ووسط هذا الاندحار العربي أمكن لفرناندو بسهولة استرجاع مدينتي قرطبة 1236م وجيّان 1246م.هذا هو الإطار التاريخي الذي تتحرك فيه الرواية ، أي من 1209م عندما بدأ النصارى شنّ هجماتهم على تخوم وضواحي مدينة جيّان ، حتى تسليم المدينة بعد حصار طويل العام 1246. خلال الأربعين سنة هذه يعيش القارئ حياة شخصية الرواية الرئيسية "سليم” وهو ينحدر من أسرة بني نصر العربية في جيّان، الذي عايش مختلف الأحداث، والتقلبات، والهزّات ، والهجمات، والهزائم، والانتصارات، والمكايد والتمردات والتغيّرات التي طرأت على الحياة بشكل عام في المدينة. وقد ورد اسم مدينة "جيّان” في مرثية الشاعر الأندلسي المعروف أبي البقاء الرندي الشهيرة التي مطلعها:لكل شيء إذا ما تمّ نقصانفلا يغرّ بطيب العيش إنسانهي الأمور كما شاهدتها دولمن سرّه زمن ساءته أزمانإلى أن يقول:فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيّانالوادي الكبير.. تجسيم للرواية الشفوية يقدّم الكاتب روايته على لسان رجل مسنّ "حكواتي” أو "حلايقي” الذي يشبع القارئ بالعديد من القصص و الحكايات الشفوية التي لا تنضب ولا تنتهي. يقدمها باستمرار بأسلوب جذاب ومضمون جديد، في هذه "الراوية”. ويتميز الحافظ بقدرة كبيرة على تسيير ضفة الكلم في الرواية الشعبية بالخصوص. ويستعمل مختلف التعابير البيانية، والأساليب البلاغية، والأوصاف الغريبة، والكلمات الآسرة الموفية، المنتقاة والموشاة المرخّمة والمسجّعة التي تتمّيز بها طريقة الرواة الذين يعتمدون على الرواية الشفوية. وهو حريص على استعمال أكبر قدر من الكلمات العربية الأصل، التي دخلت في اللغة الإسبانية واستقرّت فيها. ويبدو لنا متنقلاً بين مختلف الأماكن، والمناطق، والبقاع والأصقاع التي كانت مسرحاً للأحداث في ذلك الوقت.