كتبت - رنوة العمصي: في أحد فرجان المحرق، فريج الشيوخ تحديداً، بإمكانك الجلوس لتمضية بعض الوقت في مقهى «بوخلف» الشعبي وشرب «استكانة» شاي، أو تناول بعض «النخي» الساخن، وتأمل الحي والمارة، أو الاستماع للمذياع المركون فوق أحد الأرفف وتصفح الجريدة.بعد أن تفرغ من الشاي ومن الجريدة، قد تقودك قدماك لجولة في «الداعوس» المجاور. في تجولك الهادئ لا يبدو ثمة شيء يسترعي الانتباه سوى الطابع المحلي للمكان، البيوت المتراصة يتكئ أحدها على الآخر، قديمة لكنها نظيفة، يظهر أنها مرممة حديثاً دون أن تفقد طابعها التراثي. الأرض مسوَّاةٌ بقطع حجرية جميلة، أطفال يلعبون الكرة، ورجل ابتاع لبيته حاجيات يحملها في كيس بلاستيكي مستعجلاً، نسوة مجتمعات يرتدين عباءة الرأس، الحياة ببساطتها تدب في المكان، ولافتات تقودك لبيوت بعينها تتشارك وسواها الحي (مركز الشيخ إبراهيم - بيت عبد الله الزايد – بيت محمد بن فارس – بيت الكورار – بيت القهوة – مكتبة اقرأ – نزل )، بيوت لا تبدو مختلفة عن محيطها، إلا بعد أن تنفتح لك أبوابها وتدخل...مركز الشيخ إبراهيم مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث والبيوت التراثية التابعة مؤسسة أهلية غير ربحية، تشمل عدداً من المراكز وبيوت الثقافة والتراث هي: مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث: ملتقى للثقافة وشؤونها وموقع اتصال حضاري في حوار الحضارات. تم بناؤه هذا المركز في الموقع الأصلي للمجلس الأول لصاحبه، مع محاولة إبقاء الطراز المعماري المميز لمدينة المحرقبيت محمد بن فارس لفن الصوت: تم بناؤه على الموقع الأصلي لمنزل الفنان محمد بن فارس والذي يعتبر رائداً في تطوير النغم الخليجي، يحتوي على بعض الوثائق والمستندات الخاصة بالفنان والعديد من القصائد التي غناها إضافة إلى بعض المطربين الذين تتلمذوا على يديه أو غنوا أغانيهعمارة بن مطر: بيت لتاجر نجدي يدعى سلمان بن مطر استقرار في العاصمة الأولى المحرق في ممارسة تجارة بيع الأخشاب وورث عنه ابنه حسين التجارة نفسها، للحفاظ على الذاكرة المرتبطة بالعمارة المتميزة لمدينة المحرق والخصوصية التي لازمت هذا البيت منذ تأسيسه.بيت الكورار: تأسس هذا البيت من أجل الحفاظ على حرفة يدوية تكاد تندثر هي حرفة الكورار والتي تعتبر من الأعمال التراثية التي مارستها النساء في مدينة المحرقبيت عبد الله الزايد: بني قبل 100 عام وبافتتاحه تمت المحافظة على بيت مؤسس الصحافة في البحرين والنمط المعماري المتميز لتلك الفترة من تاريخ مدينة المحرق مكتبة اقرأ: مكتبة للأطفال مزودة بالكتب باللغتين العربية والإنجليزية وبأجهزة الكمبيوتر ومعدات التعلم الأخرى، تفتح أبوابها للأطفال وتقدم لهم خدمات تعليمية وتثقيفية. نزل: مكان إقامة لضيوف المركز، صمم من الداخل والخارج على الطراز المعماري المحلي المحرقي ليسمح لضيوف المركز بأن تكون زيارتهم تجربة كاملة لاختبار الطابع المحرقي المحلي في فترة إقامتهم في البحرين.بيت القهوة (زعفران) : مقهى لرواد المكان وزواره يقدم وجباته من المأكولات الشعبية البحرينية. 200 شخصية مهمةاستضاف مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث منذ افتتاحه أكثر مــــــــن 200 شخصيــــــة أدبيــــة وثقافية وسياسية وفنية عربية وعالمية، شاركوا بأفكارهم وأطروحاتهم عبر ندوات وفعاليات احتضنها المركز، بالإضافة لأمسيات شعرية ومعارض فنية أقيمت في البيوت التابعة لمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. يقول أحد ضيوف المركز الكاتب والباحث السوري هاشم صالح: «ما إن تصل إلى مركز جدها (الشيخة مي بنت محمد آل خليفة ) الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة حتى تشعر بأنك أصبحت ضيفاً على العرب كلهم وليس فقط على البحرين. أنت في بيتك هنا. يكفي أن تنظر إلى أعلى، إلى ما فوق رأسك وأنت في المدخل الكبير، لكي ترى صور كبار المبدعين العرب مصفوفة إلى جانب بعضها كالإطار الذي يحيط بالسقف. إنها منقوشة هناك كمنارات عالية تفتخر بها البحرين لأنها تحب الثقافة والمثقفين. البحرين لا تحتفل فقط بمثقفي البحرين وإنما بمثقفي الأمة العربية كلها ... هنا البحرين جزء لا يتجزأ من العرب، والعرب ما هم إلا امتداد طبيعي للبحرين».وعن فكرة إقامة المركز تقول الأديبة اللبنانية د. زهيدة درويش: «كانت الخطوة الأولى إنشاء مركز ثقافي على اسم الجدّ الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، ما لبث أن أصبح مركز إشعاع ثقافي استضاف خلال سنواته العشر كبار الشخصيات الفكرية والأدبية العربية والعالمية. بدأ المشوار بخطوة تلتها خطوات امرأة تقدمت بثبات بفضل العزم والتصميم والهمة العالية، فلفتت إليها الأنظار واستحقت أن تتبوأ منصب وزيرة للثقافة. زادتني قناعةً بالأطروحة التي بنيت عليها ورقتي وهي أن لحضور المرأة في العالم خصوصية تقوم على التفهم والتناغم والانسجام لا على التسلط والسيطرة، وأن دوراً أكبر للمرأة في الثقافة والمجتمع يمكنه أن يساهم في إضفاء صبغةٍ إنسانية على العولمة».على مدى 10 سنوات، عمل مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث ليكون مركز إشعاع ثقافي عربي وعالمي، عبر اجتذابه لعدد كبير من المفكرين، المثقفين والفنانين لتقديم الندوات، اللقاءات، الأمسيات الشعرية والموسيقية، والمعارض الفنية، في عبور طموح للمسافات والزمن، واستيعاب هائل للتنوعات الفكرية والثقافية، تؤكدها عبارة للناقد المصري د. يحيى الجمل في إحدى مقالاته عندما قال: « كان هناك وفود من أغلب أقطار الوطن العربي كلها شاركت فيما أقيم من ندوات سواء في مركز الشيخ إبراهيم أو في متحف البحرين» ضيوف المركز القادمون من شتى أنحاء العالم يقدمون أفكارهم وأطروحاتهم، غير أنهم لا يعودون خالي الوفاض، يعودون محملين بتجاربهم عن مدينة المحرق وبيوتها التراثية وثقافتها وحضارتها، يكتبون ويتحدثون عنها عبر منابرهم حول العالم في مناسبات عدّة، ويحملون المدينة الصغيرة من المحليّة إلى العالمية، وهو استثمار واعٍ يقوده مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث لا يمكن أن يكون محض صدفة، إنما تجربة مدروسة، تجربة احتفت بالمحلي وبخصوصية المحرق وقدمتها باعتزاز للوطن العربي والعالم . المحرق مدينة عالمية المغاير في التجربة أنها على عكس العولمة التي تعصف بالمحلي فتحول المدن إلى مسخ، عملت الثقافة على جعل المحرق مدينة عالمية بالحفاظ على خصوصيتها، وبالفكر الذي يعي ماهية الثقافة باتساع مفهومها، فاللغة ثقافة، الزي ثقافة، العمارة والفن ثقافة، لُعَب الأطفال القديمة وصوت المآذن والمساجد وحكايات الجدة، كلها ثقافة لا تقل أهمية عن تلك التي تدور بداخل أروقة وصالات المؤسسات والمراكز الثقافية، كلها ثقافة وتستحق الاعتناء. وهو ما يؤكده السفير السابق للجمهورية التونسية في البحرين خالد الزيتوني في مقاله لافتتاحية كتاب الموسم الثقافي العاشر لمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث « الشيخة مي بنت محمد آل خليفة... تقود مشروعاً ثقافياً رائداً يروم المحافظة على الذاكرة الجماعية لهذا الشعب الأصيل والتعريف بها وتنميتها وجعلها مصدر ثروة وإشعاع لهذا البلد الشقيق».اللافت أيضاً، أن بيوت مركز الشيخ إبراهيم كمراكز ثقافية تؤكد بموقعها وتصميمها، المكانة التاريخية للثقافة في البحرين، فالبساطة والعمق التاريخي للأمكنة الذي لا تفوح منه رائحة الطفرة النفطية، يؤكد على أن شعب هذه الجزيرة يتعاطى بالثقافة كحاجة أساسية منذ القدم، لا كمالية تفترضها متطلبات الحداثة والمدنية والرخاء المادي الظاهر لدول المنطقة.مشروع طريق اللؤلؤمشروع آخر قيد التنفيذ، وهو مشروع عالمي تقوده وزارة الثقافة في المحرق أيضاً «اليوم هو يوم سعيد لكل شعب البحرين بتسجيل الموقع الثاني على قائمة التراث العالمي، ورغم صغر هذا البلد فإن شواهد الحضارة على هذه الجزيرة تمتد إلى فترة ما قبل التاريخ» هكذا علقت وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة على تسجيل مشروع (طريق اللؤلؤ: شاهداً على اقتصاد جزيرة) ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي لليونسكو وذلك خلال الاجتماع الذي انعقد بمدينة سانت بطرسبرغ الروسية. وطريق اللؤلؤ هو موقع تراثي تم العمل على تأسيسه لتوثيق تاريخ حقبة من الحقب الزمنية في مملكة البحرين كان اقتصادها يعتمد على اللؤلؤ، ويبدأ الطريق من هيرات اللؤلؤ بالقرب من قلعة بوماهر ويمتد لثلاثة كيلو مترات تقريباً وصولاً إلى بيت سيادي، حيث يضم الطريق على طوله عدداً من البيوت التي توثق حياة العاملين على هذه المهنة من الطواش والغواص والنوخذة والسيب وغيرهم. وتكتب جريدة الشرق الأوسط عن هذا المشروع : «يركز برنامج المشروع على مدينة المحرق باعتبارها عاصمة صيد اللؤلؤ في مملكة البحرين، حيث سيتم إقامة ممر بطول 3.22 كلم يربط المباني التاريخية بالسواحل الطبيعية عند قلعة بوماهر في جنوب المحرق، لتحكي قصة اللؤلؤ في البحرين، ويقود الممر إلى سوق القيصرية التي سيتم تجديدها لتكون وجهة ثقافية تراثية عريقة» ويشرح موقع اليونسكو مشروع طريق اللؤلؤ عبر وثيقته التي تقول: «المباني المحددة على قائمة الموقع تشمل مساكن التجار، والمحال التجارية، والمخازن ومسجد، والموقع هو آخر مثال كامل متبقي للتقاليد الثقافية لصيد اللؤلؤ، والثروة التي نتجت في الوقت الذي كانت فيه هذه التجارة تهيمن على اقتصاد الخليج... إن المشروع يشكل أيضاً مثالاً بارزاً للاستخدام التقليدي للموارد البحرية ولتفاعل الإنسان مع بيئته، واللتان شكلتا على حدٍ سواء الاقتصاد والهوية الثقافية لمجتمع هذه الجزيرة. ويرصد طريق اللؤلؤ الحياة الاجتماعية البحرينية في تلك الحقبة والمهن التي شكلت عصب الحياة الاقتصادية، ويتتبع الفرجان والبيوت التي تشكل في مجموعها 17 بيتاً هي قوام مشروع طريق اللؤلؤ، وهي الطريق الفعلي الذي كان يسلكه اللؤلؤ البحريني من استخراجه وحتى بيعه، وبهذا تحقق الثقافة نقلة عالمية موثقة أخرى للمحرق العاصمة الأولى للبحرين، مجدداً من خلال خصوصيتها الثقافية المحلية، وبانحياز للتراث الوطني والذاكرة الجمعية لشعب البحرين.يقول الكاتب جهاد الخازن « السياسة تفرِّق العرب والثقافة تجمعهم، ولعل طريق اللؤلؤ يصلح ما أفسده ميدان اللؤلؤة من حُسن التعايش بين أبناء البحرين»!. اعتراضات وانتقادات واجهت المشاريع الثقافية في المحرق مؤخراً بعض الانتقادات والاعتراضات من قبل بعض التيارات المتشددة، والتي اتخذت في اعتراضاتها مسوغات ومبررات متعددة، تختلف حسب الظرف، واستندت في معظم الأحيان إلى أن الحراك والمشاريع الثقافية تقود أمراً دخيلاً على الأحياء الشعبية والبيوت السكنية للمحرق، وأنها قد تتنافى والعادات والموروث لسكان أهل المحرق. ويرى القائمون أن الموروثات والعادات جزء من الثقافة تستوعبها وتزيد عليها، لذلك فهي لا تتنافى ولا تتعارض معها بأي حال، ويستدلون على رأيهم بأن معظم بيوت الثقافة التي هي قوام المشاريع الثقافية بالأصل كانت مملوكة للأشخاص الذين تحمل البيوت أسماءهم اليوم ( الشيخ إبراهيم – عبد الله الزايد – عمارة بن مطر - ... )، وكانوا يمارسون النشاط الثقافي نفسه الذي يتم إحياؤه اليوم وحسب، لذلك فالعمل لا مستحدث ولا غريب وإنما هو من صلب الموروث المحرقي المحلي ولطالما كان موجوداً ومتقبلاً، ومحل ترحيب.