الجفير – عبدالرحمن صالح الدوسري:نعاود السير في دروب الحورة، وبدر عبدالملك يكمل حديثه في الذاكرة عن بيوت بيبانها لا تعرف الأقفال، وعيون تكره النوم.. وليل لا ينتهي بالسهر يفتح لنا دفاتر نتصفحها معاً.. نمر على كل دروب الفريج ونحيي أهله.. ندخل بيوته.. ولا يعترض أحد.. فإننا نعتبر من «العيال».. وكل أهل الحورة عائلة كبيرة مقسمة على دواعيسها «وبيوتها» وإن اختلفت تسميات عوائلها.. بدر يعاود الحديث عن حياته وذاكرته.. وعن كثير من الأمور التي لازال يحتفظ بها ولاتزال عالقة بخيوط تلك الذاكرة قد تبدو للوهلة الأولى غريبة على الكثيرين.. إلا أولاد الحورة.. ثقافة الصورة يمضي بدر في الحديث فيقول: كنا قد توقفنا في الحوار السابق عند ثقافة الصورة .. واستخداماتها فالصورة عندما دخلت حياتنا للمرة الأولى كانت ضيفاًَ جديداً أردنا أن نتعامل معه بكل محبة.. وندخله بيوتنا كما قلوبنا، لذلك توزعت الصورة التي بدأت في شهادة الصف السادس ابتدائي تطورت علاقتنا معها لتدخل قلوبنا وتستقر في البومات الصور.كان كل واحد منا يحتفظ بصور أصدقائه في الفريج والمدرسة والعبارة واحدة «إن غاب جسمي فهناك رسمي» وكانت الصيغة تكتب للأصدقاء من الأولاد.. وحتى البنات في مرحلة الحب والمراهقة ، لم تكن تحفظ عبارة أقصر وأكثر تعبيراً حتى بعد أن تمرسنا في حوار الأفلام والغزل في السينما والأغاني فبقيت هذه العبارة هي السائدة .عائلة الحسيني وحارة بن أنسويضيف بدر: إذا تحدثنا عن تاريخ هذه المنطقة لابد أن نعود لتواريخ دقيقة استقيتها من المستشار بديوان رئيس دولة الإمارات علي الهاشمي وهو واحد من أبناء الحورة هاجر إلى الإمارات مع بداية النهضة فيها وعمل مستشاراً للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في ديوانه في أبوظبي ولازال يقيم في الإمارات.يقول المستشار الهاشمي: «وصلت عائلة الحسيني إلى الحورة قادمة من قطر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وقد كان كبيرهم هو سعد بن أنس الحسيني، لذلك أطلق على المنطقة حالة بني أنس نسبة لهذا الرجل، لأنه يعتبر من كبار رجال الدين قبل ذلك كان في السعودية ، ثم انتقل إلى قطر فالبحرين ، فاسم حالة بني أنس جاءت في فترة تسميات أخرى كسلطة النعيم وأبوماهر.وأعقب وصولهم إلى الحورة وصول بيت العسومي والرميحي، لذلك نجد هذه العوائل استوطنت في منطقة قريبة من البحر، لكن العوائل التي جاءت بعد ذلك.. سكنت مناطق داخلية ، وبيت العسومي الحالي اشتراه محمد بن أحمد العسومي من سيف الحسيني، وكان هذا البيت عبارة عن مدرسة دينية يديرها سيف بنفس المكان والشكل في منتصف القرن الثامن عشر، يقول يوسف ثاني المريخي في كتابه عن الحورة « أن المسجد بُني العام 1857، فيما يؤكد المستشار الهاشمي أن يوسف كان عنده خطأ في الأرقام حيث إن المسجد بُني في العام 1875م، وإنه بُني في القرن التاسع عشر، وكان يطلق عليه مسجد « الحسينيات «. لكن الذي لم يكن واضحاً في الموضوع هل تم بناء المسجد من السعف أو الطين هذا ما لم يؤكده الاثنان معاً، لكن المتعارف عليه أن العوائل عندما تريد أن توثق لها موقعاً دائماً ما تبدأ ببناء المساجد. ويكمل المستشار في توضيحه أن المسجد أطلق عليه مسجد حالة بني أنس نسبة لنقس العائلة، لكنه يقول إن وثيقة هذا المسجد تقول إن مؤسس المسجد هو قاسم المريخي رحمه الله في وثيقة مؤرخة في جمادي الآخر يوليو 1875، هذا يعني أن الحورة كان فيها مدرسة لعائلة الحسيني، بعد أن كان لها مسجد، وهو البيت الذي اشترته عائلة العسومي.إذاً يوسف المريخي كان محقاً في كتابه لكنه اختلطت عليه بعض الأرقام، وإذا لاحظت سكن يوسف المريخي ستجده محاطاً بعوائل الحسيني من كل جهة وهو محصور في وسط هذه العائلة. ما يدلك بأن عائلة الحسيني كانت تستوطن هذه المنطقة. من بيت مطوع إبراهيم الحسيني إلى بيت والدتي إلى بيت إبراهيم الحسيني، ومحمد وصقر وعلي الحسيني وصولاً إلى بيت ياسين الحسيني فهي منطقة كانت تستملكها عائلة الحسينيات ثم جاءت عائلة المريخي وأخذت أرضاً صغيرة وسط هذه العائلة.ويبقى أن الشيخ المهزع أشهر من درس على يد محمد راشد الحسيني في مدرسته وتعلم علوم الدين والحساب والأمور التي كانت تدرس في تلك الفترة.ذلك ما يدلك على أن الحورة كانت بها مدرسة دينية ستبقى حتى المدارس التي أنشئت في المحرق ومنها الهداية الخليفية.وللدلالة أكثر بأن هذا المسجد هو مسجد الحسينيات.. تجد أن بيت عبدالله الحسيني المجاور إلى بيتكم والمقابل للمسجد هو أيضاً امتداد لبيوت الحسيني. إذا كانوا يمتلكون هذا الشريط إلى عائلتكم وبيت عمومك ومن ثم بيوت الرميحي وبيت بن جبر.المريخي من قطر إلى الحورةأما عن يوسف المريخي فيقول بدر: عندما أراد يوسف المريخي أن يختار سكناً له في الحورة جاء هو الآخر من قطر وكان يدخر مبلغاً يؤهله لشراء بيت كبير لكنه اختارهذا الموقع في قلب بيوت الحسينية فأنت عندما تتجول حول بيته ستجد أن عائلات الحسينيين يسورون له المنطقة من كل جانب، وقد كانوا في تلك الفترة يستولون على مساحة كبيرة من الحورة من حدود بيتكم في الشرق مقابل المسجد الشمالي، أعني بيت صالح بن حسن ثم يوسف بن حسن وخليفة بن حسن ومن الجانب الآخر بيت عبالله بن جبر فصالح بن جبر فسند ومن ثم عيد وفي ظهر بيت عبدالله الحسيني والد محمد وعبدالعزيز تأتي بيوت تلفت ود. محمد عبدالغفاروإخوانه ، وهكذا ستجد أن بيوت الحسيني من عند بيوتكم إلى بيوتنا ومن ثم ياسين الحسيني عند العين مقابل بيت صديق.وإذا تحدثنا -يقول بدر- عن فترة متقدمة ستجد أن الحدود من بداية طريق العوضية قبل أن يوجد ما يطلق عليه «التيل» - وهو التليغراف وموقع اول اذاعة - وهذه المرحلة تأتي قبل العام 1940 ، وهي المرحلة التي ولد فيها التيل فأنت عندما تتحدث عن شارع مفتوح هو ما جعل الحالة ترتفع إلى الأعلى وأعنى حالة بن أنس التي تقع في منطقة مرتفعة على شبه هضبة.. فإذا بدأ الدخول من العوضية متجهين إلى الحورة سنجد أنفسنا نسير في طريق مرتفع شيئاً «فشيئاً» وهو ما جعل البحر عندما يصل إلى شواطئ الحورة.. لا يتجاوز مناطقها لأنها مرتفعة عن سطحه.وبالعودة إلى المنطقة الأكثر نزولاً ستجد أنها «البقيشة» وهناك كان دكان الوالد ومن ثم جاءوا الحداد ولذلك تجد أن المنطقة أكثر سواداً من كثر ما عمل الحدادة وحرقوا فيها من خلال عملهم وبالتالي أصبحت منطقة يسكنها «بن سوار» وتجار العوضية فهم تجار يبتاعون الرز والسكر والمؤنه التي كانت «استهلاكية» وهي المواد الغذائية، ويصنفون من الطبقة الوسطى من العوضية الطبقة التي لم تسكن بيوت السعف لكن بيوتهم أساساً كانت من الطين هذه الطبقة من التجار انتعشوا من «بابكو» وتحديداً العاملين في بابكو بعد ازدهار فترة النفط.شقيقي محمد شكل شخصيتيلقد تأثر بدر بشخصيات تركت بصماتها، أما أكثرهم أثراً فهو أخوه. وحول ذلك يقول: كان لابد للإنسان أياً كان أن يكون له من يؤثر بشخصيته.. وتركيبتها.. ونتيجة لمشاغل الوالد بدكانه.. وارتباط النساء في البيت وأعني خالتي.. فليس بمقدورهم تشكيل شخصيتك خصوصاً في سن المراهقة.. وما تليها.. لذلك أنا شعرت بأن ارتباطي بشقيقي محمد كان كبيراً رغم أنه لم يكن الأخ الأكبر فعمار كان هو الأكبر لكن علاقتي بمحمد كانت أقرب لأن عمار كانت حياته في فريج الفاضل ما يعني أنه بعيد عن تأسيسي.. بينما الفرق مع محمد كان أربع سنوات ولكن له الفضل في تشكيل شخصيتي، ودفعي لكل سلبيات وايجابيات حياتي كان لمحمد البصمة فيها فهو من فتح لي أبواب السياسة والاهتمام الرياضي كان كالمدرس لي حتى في البيت ينبهني حتى عندما اقرأ جمله غلط يصححها لي ويطلب مني الا اقرأ يصوت عالٍ إلا أن كنت واثقاً من أن كل ما أقرأه صحيح، ولا أتذكرأنه في يوم قد أهانني أمام الآخرين.. أذكر أنني منذ أن كنت صغيراً أعشق الجدال وعندما كنا نلتقي كمجموعة من الفريج في دكان حسن «بايو» كنت أجادل حتى من يكبروني سنناً، محمد كان عندما يلاحظ أنني تعديت حدودي في النقاش مع الآخرين كان يطلب مني أن أذهب إلى البيت، أفهم من هذا الأمر أن هناك حساباً وأنني كنت قد خرجت عن المألوف في الحوار.حتى عندما كنت أود الذهاب للسينما كان هو من يأخذني برفقته، لماذا؟ كانت تلك الفترة خطرة على مني هم في سني وكان في السينما الكثير من الرجال ذوات الشواذ الذين يصطادون الصغار وكانت العائلات التي تخاف على أبنائها لا تتركها تذهب وحدها إلى السينما، لذلك كان أخي محمد يرافقني إلى أي فيلم أذهب إليه. خصوصاً في حفلات الليل، وذلك ضمن مجموعة كبيرة من الأصدقاء من الفريج.ومما أذكره أنني كنت في الخامس ابتدائي، ودائماً أود أن استعرض عضلاتي في القراءة وكلما مررنا بكتابة على جدار «طوفة» بيت أو محل أقرأ المكتوب يصوت عالٍ كي أبين للناس أنني أجيد القراءة ومما أذكره أنني كنت يرفقه محمد في أحد الأفلام وفي نهاية الفيلم كتبت كلمة «النهاية» فودوت أن أبين للحضور أنني طالب شاكر فقرأت الكلمة ولكني قلبتها «الناهية» بدلاً من «النهاية» فدبت على رأسي وقال لي «إذا لم تعرف القراءة.. لماذا تقرأ يصوت مرتفع». فظلت هذه المواقف عندما نجتمع تقود بنا للذاكرة.. ونضحك.لقد استمرت علاقتي مع محمد رغم أننا كبرنا.. لكنه ظل يتعامل معي بالحنان.. لأنه يمتلك كمية عالية من الحنان تشعرني أنه الكبير دائماً وانه من لازال يتحمل المسؤولية وهو سعيد بذلك.ورغم مرور الكثير من السنوات ابتعدنا ثم عدنا لنقترب وهولازال يشعرني بأنه فخور بي كأخ وأنني لم أكن لأخيب ظنه في يوم من الأيام حتى في كتبه التي يهديها لي من مؤلفاته أشعر بأن في إهداءاته شيئاً من الاعتزاز بي وأن حنانه دائماً ما يزداد مع السنين وقربه أيضاً مني يزداد أكثر وأكثر.لقد ظلت علاقتي معه تتطور أكثر من أخوة إلى صداقة اتذكر جيداً حتى عندما كنت لاعباً في الفريق الذي يدربه كنا في البيت نتناقش كثيراً وكان يستأنس برأيي ويترك لي المجال في أن أقول ما أود إيصاله دون أن يعترض على ذلك ، حتى أنه في فترة من الفترات أسند لي تدريب فريق الأشبال في النادي وكان حريصاً على أن لايتسلم الأشبال أي واحد لأنهم كانوا أمانة أخلاقية في الفريق ، والنادي كان كالمركز المحافظ في الحورة ، وكانت العوائل ترمي بكل ثقتها في هذا النادي من أجل تنشئ أبناءهم التنشأة الصالحة لأنه أقرب إلى المدرسة التي تعلم أبناؤهم ليس الرياضة فقط.. لكن الأخلاق أيضاً.النادي البيت والمدرسة والمصنعنصل مع بدر الى العام 1961 في حديث ذكرياته، وهنا يقول بدر: عند ما جاء العام في 62 تحول النادي إلى كل شيء في حياتنا وأصبح هو من يسير هذه الحياة فهو تحول إلى مدرسة فعلية وأصبحت قضية التدريس للمنتمين له هاجساً يؤرق إدارة النادي، حتى أن النادي كان له دور بارز بعد تشكيل الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في 1968 ، وجاءت الهيئة الإدارية للطلبة ومن ضمنهم إبراهيم بشمي، وكانوا يودون بناء مثلاً مستوصف في بعض المناطق في البحرين كطلبة، فتحول النادي إلى المصنع ولم يجد الطلبة الذين اقترحوا هذا المشروع لتنفيذه إلا النادي العربي وأبناء الحورة الذبن تربوا على ثقافة الفزعة وهي واحدة من صفات المجتمع البحري فالتجأ إلى النادي العربي لتنفيذه ، لأن هذا الحي مميز بأنه حي تضامني وعنده الحس في العمل الجماعي في بناء أياً من المشاريع ، حتى أن العمل التطوعي في الحورة كان من متطوراً اجتماعياً سياسياً وظلت هذه التقاليد في الحورة إلى فترة متأخرة فتجد أن أياً من الشاب يود بنا غرفة في بيته سيجد الأهالي يشاركونه برحابة صدر. فأتذكر أنهم شحنونا في «جيب» وكنا نغني فرحين بالمشاركة في بناء مستوصف عراد فكنا نعلن على إبراهيم بشمي ومحمد المطوع في تلك الفترة، فلقد أوكلوا لنا بالعمل ولم نرهم إلا ليوم واحد وبعدها تواروا عن الأنظار فكنا تعلق على أنهم الطلبة وليس بمقدورهم العمل والبناء، فهم بالنسبة لنا جيل مدلل لا يستطيع العمل ي الشمس والبناء كي لنا في الفريج. لأن العمل التضامني في الحورة هو من ثقافة «الصحن» تجده يمرر على كل بيوتات الفريج والجميع يتشاركون في سفرة واحدة ويأكلون من بعضهم البعض، هذه الثقافة هي ما كان يميز أبناء الحورة وأهاليها.وخذ مثلاً حفلات الزواج من دون أن يعزمك أحد تجد نفسك ضيفاً حاضراً وهذه أيضاً من علاقة أهل الحورة يعتبرون كل ما يحدث في الفريج يحض الجميع، ولا يستثني أحداً. حتى أنني أتذكر عندما بنيت بيتي أنا من أنني بالمبلغ لكن من بناه أهل الفريج وهذا جزء من ثقافة المجتمع البحري وهو ما يسمى بقيم «الفزعة» هي قيم مجتمعية لها امتدد في القبيلة والعشيرة، لكن المجتمع البحري هو تكوينه العمل الجماعي فالبحارة في «اللنج» تجدهم يؤمنون بالعمل الجماعي، حتى إذا أردت أن تنزل الجالبوب إلى البحر تجد أن من يقوم بهذا العمل هم جميع أهل الفريج أن تأتي «بالفروش» من البحر للبناء تجد ذلك أيضاً عملاً جماعياً، إذاً هذا هو المجتمع البحري لا يعترف بعمل الفرد.هل بإمكاننا العيش بدون امرأة؟يتساءل بدر: هل بإمكاننا العيش بدون امرأة؟ إن الجواب على هذا السؤال ليس بالصعب فالمرأة هي من جاءت بنا للحياة وهنا الحديث عن دورالأم ، لكنها وأن تركتنا نجدف في بحر كبير لا نهاية له تتلاطمه الأمواج لا ندري إلى أين تأخذنا، فإن تحدثت عن تجربتي سأقول إن هناك ثلاث نساء اخترقن الحاجز الى قلبي منذ فترة المراهقة التي بدأتها مع أولاهن «فاتو» أو فاطمة وهو اسم الدلع عند بنات «العجم»، كانت هذه الفاتوه جميلة وتأسر القلب منذ النظرة الأولى وكنا كشباب متأثرين بالأفلام العربية والغرام في ثقافة الصورة فيها فإذا مانظرت لها تتخيل تلك الشقراء عند رستم او زبيده ثروت وتتصور نفسك رشدي أباظه أو كمال الشناوي .كانت النظرة الأولى في بيت «المطوع» وكنت أشعر أن هذه البنت سيكون لها قصة مع قلبي «الرقيق» كنت أشاهدها كعنقود ثلجي عند الشاطئ ينوء بخجل في الماء ، حيث لا جدران ولا خطيئة ولا حتى شيئاً من الكراهية، فكل ما كان بهذه الحياة كان يعانق البراءة في الصبا وقد كنا نضم في صدرنا كتاب الله من البيت إلى دروس القرآن ، نتعلم عند امرأة عجوز أصبحت هي من يدرسنا بعد أن أتعب الزمن زوجها وأقعده بعيداً عن التدريس.كانت « فاتو» الصبية الأولى في قلبي وقد كانت الأولى التي استطاعت أن تخترق هذا القلب وتتربع فيه لا أدري كيف.. لكنها فعلت كل ذلك.. واستطاعت دون سواها أن تكون الزائر الأول ، وحتى هذه اللحظة وبعد الطوال من السنين لا تزال هذه «الفاتوه» هي الصبية الأولى التي اقتحمت كياني فهي السنبلة الأولى والعجينة التي يبست بداخلي كما يبست عروق الأشجار وجذوعها، تلك التجربة التي منحتني في ظلمة ليل رمضاني مساحة من الحرية واللعب والاقتراب البريء ، وكانت هذه البراء تلامس شيئاً من واقعنا الصغير وأحلامنا الكبيرة . غابت «فاتو» عن الذاكرة كثيراً لكنها لم تنته في عالم النسيان وإنما فضلت الاختباء تحت نبض القلب ودقاته المتصاعدة التي تذكرني بصوت القطار عندما يقترب أكثر فأكثر.. ومن ثم يتوقف لينهي العلاقة ولكنني لازلت أستعيدها كما استعيد ورقاً شفافاً ممزقاً في الذاكرة.امرأة بملامح الرومانسية الثوريةويضيف بدر لحديث القلب: بعد أن اختفت «فاتوه» من الذاكرة لبعض الوقت وبعد أن حشرتني الحياة في دوامة السياسة المبكرة، تعلقت ببطلات الروايات في القصص والسينما ، بطلات كن رائعات لأنهن حملن ملامح الرومانسية الثورية وحملن روح التمرد في تظاهرات طلابية مشتركة في شوارع البحرين ، ولكن كالزهرات الجميلات اللاتي تعشق أن تشتم رائحتهن.جاءت من تلك النافذة المسائية لتغزو قلبي دون موعد من الحي المجاور، كان الوعي والعاطفة يتناوبان حالة التردد والخجل ، كان يعيش هناك عالم يسيج مملكتنا الصغيرة بالشوك ، ومع ذلك كنت أتسلل في ظلمة الليل إلى نأفذتها لأرمي برسالتي وانتظر جوابها بشيء يمزج بين الفرحة والكبرياء.. والخوف، لم يكن عالمنا قد غزاه النقال ولا البريد الإلكتروني لكنها الرسائل الورقية المزيجة بقلوب على أطرافها وألوانها الورديه كنا نحشيها بحجارة صغيرة لتحفظ لها توازنها عن الطيران في الهواء كي لا تظل الطريق إلى نافذة قد تكون تتربص بهذين المحبين، وبمثل ما جاءت في الخريف كان لابد لها أن تذهب فيه.بوليفية بتعويذات هنديةويواصل بدر التجوال في قلبه العاشق : في شوارع براغ الشتائية، وفي بهو فندق دافئ كان الثلج يتساقط وراء النافذة ، بينما كانت زاوية المقهى عابقة بروائح امرأة هندية جاءت من جبال الانديز تحمل حضارة الانكا ، وفي قلبها عنفوان إضرابات عمال المناجم في كوجابامبا البعيدة ، تلك المدينة كانت تشكل بالنسبة لي حكاية مثل مسقط رأس ماريا الهندية التي تنتمي لقبيلة من قبائل الداجوا، والتي تعد من أكبر القبائل الهندية في القارة.كان قطار الحب لماريا مجبر على أن يتوقف عند محطة قلبي تملكتني الصبية البوليفية مثلماً تملكها هذا المكابر القادم من بحيرة النفط ، فاكتشفت ماريا القادمة من الأفق البعيد أن جيفارا يعيش في أزقة ودواعيس المنامة، وأن أغنيات فكتورهارا التشيلية ليست إلا أغنية عراقية تصدح في شوارع البحرين، اكتشفت عبر الحب عالماً من السياسة ومظاهر غريبة في كوكبنا.افترقنا وكانت نهاية مؤلمة لأن الحب كان بيتاً بيتاً من الشمس والثلج، كان لابد لنا أن نفترق فقد قبلت ماريا فكرة الزواج لكنها رفضت القدوم معي إلى البحرين مثلماً رفضت الذهاب معها إلى لاباز، كان معها مشروع الثورة وكان معي مشروع الانتماء فاختار كل واحد منا الوطن.الثالثة ثابتة من جزيرة افروديتويتابع بدر نابشاً ذاكرة قلبه: في مطلع الثمانينات جاءت صبية من جزيرتها إلى جزيرتنا وكأنها صخرة قد قذفت بعيداً من جبل في البحر المتوسط إلى مياه الخليج، تلك المياه في هذا الخليج المتعب، جاءت كطفلة خجولة مرحة وطيبة إلى أبعد الحدود، كانت في مهمة عمل لكنها كانت تلك المهمة سبباً لعلاقة قادمة في مسح ميداني في قلبي الذي كان مفتوحاً لها بكل أبوابه.. دخلت القبرصين وكاترينا وهي المرأة الثالثة والأخيرة بمشروع زواج يدخلنا معاً ذاكرة العام المقبل بعد عقدين من الزواج، ودعتها في المطار مغادرة إلى بلدها قبرص وقواعدنا أننا سنلتقي مع بعض لكن زوجين قبل كلاً من الآخر شريكاً له.. في الحياة وأنجبنا طفلين هما ابنتي تانيا وابني هاريس ولازلنا نعشق الحياة كأسرة.. ونعتلي قمة بلاترس أعلى قمة في جبل ترودوس في قبرص، الموت وحده يجعلنا نفتقد الحياة.. وأجمل حياة هي حياتنا مع النساء.شخصيات مازالت تختزنها الذاكرةهل هناك شخصيات أخرى في حياة بدر؟ يتذكر بدر: من الشخصيات التي مرت على حياتي ولازالت الذاكرة تختزنا كانت شخصية «سنتول» هذا الرجل الطيب الذي كان عمله أن يزرع البسمة على شفاه أبناء الفريج، وكان يسمى ملك الكوميديا رغم أن في الحي أكثر من كوميديان لكنهم بوجود سنتول تجدهم يختفون ويتوارون عن الأنظارلأنهم لا يستطيعون مجاراته ، كنت أتناقش معه وهو مشروع روائي لماذا؟لوأنه تعلم المسرح كان بإمكانه التفوق بأن يكون شخصية بارزه لأنه في منتهى الذكاء، وعنده قدره على التصويرالفني لأبعد الحدود، وبسهوله يصيغه في نكته من خلال تحويله إلى مشهد، لكن الغريب في هذا الرجل وهو ما يعكس بداخله من الم أنني لم أره في حياتي يبتسم أو يضحك كنت تجده بكل بساطه يبكي لكن أن يضحك هذا من رابع المستحيلات.هو يمتلك موهبة النكته والغناء معاً وتجده «دي جي» متنقل باستطاعته أن يحفظ أي أغنية ويغنيها لك ويواصل غنائها بأغنية أخرى بصورة عجيبة لا يستطيع أحد غيره القيام بها.وأنا شاهدته حتى في السجن كان يصنع العود من عليه الدهن ويضيف له أوتاراً من خيوط النايلون وفي ليالي السجناء في جده كان هو الإضافة المسلية لهم خصوصاً عندما يكون القمر في بطن السماء ينيرها.يأتيك صوت «سنتول» مردداً على عوده:«يا أم العيون النرجسيساهري لا تنعســـــــي»وكذلك من أغانيه:قابلني كذلك سماوي عليه زاد اشتياقي ســــاعة ما شـــــفت الجمـــــــــــــيل وله ايضاً مرحلة جميلة من الاشعار تعبر عن سفر العمال البحرينيين في عام 1945 ، وتعكس لك العامل البحريني الذي ذهب للعمل في السعودية رغم كل التقارب والمسافة التي لا تتعدى الساعات باللنج ، لكن البعض لم يستطيع الصمود وعاد من جديد وكان عددهم يفوق خمسة آلاف عامل موزعين بين رأس تنورة والظهران خلال فترة العمل بمد أنابيب النفط ،كان سنتول يتغني بكوبليه اشتهر في تلك الفترة ويقول فيه :«أريد أرحل من الظهران ولا آعودكـــمنجه لا تســـليني ولا عـــــود»فهذا ما يعكس ان الإنسان البحريني الذي تعود على حياة معينة لم يستطع أن يواصل عمله في تلك المنطقة.وهو ما يفسر نمط الحياة في المجتمع البحري الزراعي للإنسان البحريني، ولذلك تجده يختلف عن النمط الرعوي عند الأشقاء في السعودية والكويت فمجتمع الإنسان البحري لا يستطيع أن يغيب عن البحرين فالحياة فيها لها نمط مختلف عن كل المجتمعات لذلك فإن أهلها حياتهم تجبرهم عن عدم الابتعاد عنها، حتى في الظروف الصعبة التي قد تجبرهم للبحث عن رزق لهم ولإبنائهم ، والمجتمع البحريني لم يكن بالتالي مجتمعاً متزمتاً دينياً لذلك تجده تتكاثر فيه دور الطرب وأهل الطرب ومجتمعاً يعشق «الونسه» وهي من ينسيه معاناته في رحلات الغوص والإبحار لفترات طويلة، لذلك كانت البحرين مصدراً لجذب الخليجيين لأن أهلها طيبون ومتسامحون ويعشقون إكرام ضيوفهم، وهذه السمة لازالت ما يميز البحرين وأهلها مع ضيوفهم من الخليج أوالعرب أوحتى الدول الأجنبية ، فالمجتمع البحري لورجعنا للتاريخ ستجده أيام «ديلي» كان قد رحب بانتشار»الدور» وكانت ذات وجهين وجه طربي للوناسه وآخر للسياسة فالبحاره بعد 4 شهور وبعد عودتهم من الغوص كانوا يلتقون في الدور للطرب والغناء والوناسه التي تنسيهم هموم الغوص والفراق والمعاناة.وكانت أيضاً فرصة للتعاطي في هموم والسياسة ومناقشة العالم العربي والخارجي وظلم النواخذة وما اقتطع منهم من اموال لم تغب عن المجتمعين في هذه الدور، هذا التجمع هو ما أجبر « ديلي « على تهديم الدور عندما بدأوا في الهجوم على النواخذة وبدأت ما سميت في تلك الفترة «هجمة الغواصين « وشعر أن الدور لم تكن فقط أماكن للغناء والطرب ، لكنها أيضاً للتجمع وتعاطي السياسة.قهوة البلوش وتكة مختارإذا انتقلنا مع بدر الى «قهوة البلوشي» فسنجد أنها المقهى الأقدم في المنطقة وهي لغلوم والد الأديب محمد الماجد. يقول بدر: لقد جاءت تسمية «الماجد» نسبة لوالدته فهي من بيت الماجد وبعدها أن اتجهت ناحية السينمات في الخمسينيات ستجد قهوة أحمد شاه ومطعم مختار صاحب محل «التكة» ، أنا أعرف ابنه وأخوة وقد التقيت شقيقة وسجلت منه بعض المعلومات عن مختار فقد كان يمتلك محل تكة ومن أمامه «جبره» يستخدمها كمقهى مفتوح وكنت أذهب إليه وأنا صغير بصحبة الوالد. كانت قهوة مختار استراحة لي يأخذني لها الوالد وأنام فترة الظهيرة وفي المساء يأخذ في إلى السينما .كان محله مقابل للسينما الحمراء وهناك كانت «براحة» صغيرة ومجموعة من المقاهي كان محل مختار بيتهم، وظلت شهرته من الخمسينات إلى السبعينات كانت قهوة مختار من المقاهي البارزة ومحلات التكة المميزةومن المعلومات التي دونتها عن مختار وأخذتها من ابنه أحمد مختار والذي شغل لفترة مدير لكتب طيران الخليج في القاهرة.. ان اسمه مختار عبدالله وشهرته باتت مرتبطة «بتكة مختار»، وقد بدأ حياته العملية في بابكو وعمل «أوفس بوي» وبتعبيرنا البحريني تعني «فراش»، افتتح مختار الذي جلب ثقافة عمل التكة من فارس كمهنة «كبابجي» واتخذ من محله الرئيس الذي بدأ برشه صغيرة وحوله إلى دكان لبيع «التكة» في أواخر الستينات.. وكان محله قد افتتح رسمياً العام 1949، وهو أمام مقهى أكبر صديق المجاور للقهوة التي تقابل سينما الحمراء حالياً.بدايته كان بكمية هي عبارة عن كيلوين من لحم البقر وقد قام في يوم الافتتاح بعمل نوع من الدعاية للتعريف بالمحل بأن وزع كمية اللحم التي قام بشوائها بالمجان على ضيوف المحل، بعدها تطور مختار أو «تكة مختار» ليصبح المحل الأشهر في تلك المنطقة لبيع «التكة» وكان لكثرة زبائنه الذين يبدأون سهرتهم بالعشاء عنده قبل التوجه للسينما أنه كان يبيع في الليلة ما يقارب ثلاثة آلاف سينم تكة، وكان يضطر أن يغلق المحل ي التاسعة لمن كل ليلة وأحياناً في الثامنة وذلك لسرعة نفاذ الكمية من أسياخ التكة.فمختار كان المحل الأشهر هو وتكة أمين المنافس الوحيد له وكان المحلان المفضلان لمحبي التكة والكباب وهي الأكلة الشعبية الأولى التي كانت منذ الأربعينات إلى اليوم، وذلك لنكهتها الخاصة وسعرها الذي لا ينافس، وكان في تلك الفترة يستخدم اللحم الطازج وليس كما هو موجود اليوم في محلات التكة .مختار استمر في هذه المهنة يزداد شهرة إلى العام 1989 عندما توفي، ولازال الكثيرون ممن مروا على تلك المحلات يتذكرونه، ومن أشهر تلامذته منصور الذي حمل شهرته اليوم «بتكة منصوري».. وقد حول مختار محله في العام 1982 لمحل بيع الفحم، وذلك لارتباطه بالتكة.زوجوا بناتكمويواصل بدر: بالنسبة لمحل «زوجوا بناتكم» لم تكن عندي الحقبة بالضبط، فنحن شاهدنا هذه العبارة على محل للتصدير في الستينات، هذا السيناريو افتراضي ففي تلك الفترة يجوز أن البنات زادوا عن الشباب وكان هناك نوع من القلق على العنوسة عند البنات عندما يكبرون ويتجاوزن سن الزواج، خصوصاً دخول البنات في التعليم وانخراطهم فيه، وقد يكون هذا المصور رجل محافظ ووجد أن البنات بدأن في التصوير واعتبره خطرا على المجتمع المحافظ ، لأن البنات بدأن يتفهمن الغزل والحب ولذلك الصور كانت طريق للعلاقات التي يرفضها هذا الرجل «المصور» ما جعله يدق ناقوس الخطر للتجمع والآباء وكتب لهم تلك العبارة الشهيرة على باب دكانه « مكتب الزواج ، كافحوا النساء بالزواج ، الى الزواج ايها الشباب، زوجوا بناتكم وأولادكم في مكتب الزواج « ، قد يكون ذلك مع طفرة بروز الكاميرات وانتشار ثقافة الصورة أو كما كانوا يطلقون عليها « العكوس « ، وتزامنت مع افتتاح أكثر من محل للتصوير فالشادات المدرسية كانت تجبرك على التصوير والاتحادات الرياضية أيضاً بدأت في إصدارالبطاقات لمنتسبيها من اللاعبين بمختلف الدرجات، فمن الأستوديوهات التي انتشرت في البحرين وتقريباً في نفس الشارع كان « ستوديو خلفان « و « ستوديو الهلال « و « ستوديو بشير»، وقد يكون ظهور هذه المحلات ما أجبره على القيام بعمل دعاية لجذب الشباب والبنات للتصوير في محله دون الآخرين. حتى أن تلك الفترة كانت قد شهدت انتشار طلب أهل العروس صورة جميلة للمعرس المتقدم للزواج من ابنتهم ليتفاخروا بها أمام الأهل والجيران، وهو ماتفعله العروس أمام صديقاتها في الفريج أوالمدرسة إن كانت ُمدرسة أوطالبة .وأذكر أننا في الحورة حولناها إلى نكتة وكان وقتها قد انتشرت صورة بثلاثين روبية وهي التي يضع لها المصور الرتوش التي تزيل العيوب من وجه صاحب الصورة ، وأما الصورة العادية فكانت بعيوبها وبعشر روبيات، لذلك كان كل من يذهب للمصور نقول له «هاه كم من المبلغ دفعت ثلاثين روبيه لوعشر، فكان الخوف من أن يتمسخر عليه الربع يجيب سريعاً «أكيد عشر روبيات اشلون عبالكم آنه جيكر آنه حلو ولا أحتاج للرتوش».