^   كل شيء في الحياة له مقابل؛ فإذا كان هناك من يهدم الشوارع هناك عشرات يقوم بتعبيدها ورصفها ورفع الجسور والكباري، وإذا كان هناك من يحاول شق الصف الاجتماعي، هناك من يواصل ليل نهار إعادة اللحمة الوطنية في هذا أو ذاك من المجتمعات، وإذا كان هناك أشخاص يموتون لسبب أو لآخر، فهناك الولادات التي لا تتوقف في المستشفيات والبيوت والقرى النائية. كل شي له مقابل، فإذا كان هناك علماء يقومون بتطوير الأسلحة الفتاكة، فهناك علماء أكثر منهم يسهرون في مختبراتهم من أجل اكتشاف أدوية جديدة للتخلص من الأمراض المستعصية. كل شيء له مقابل، ونحن كمسلمين نعرف جيداً أنه مقابل السيئة الواحدة هناك عشر حسنات، وهي تتضاعف بشكل أسطوري. قبل فترة قصيرة وصلني أحد الإيميلات الجميلة التي تقول لنا إن الدنيا مازالت بخير، رغم الرؤية التي يحاول نشرها بيننا الظلاميون بشتى أشكالهم وصورهم وأفكارهم. يقول الإيميل الذي جاء على لسان أحد الأشخاص الذين عايشوا القصة.. إنه في مدينة البندقية، وفي ناحية من نواحيها النائية كنا نحتسي قهوتنا في أحد المقاهي، فجلس إلى جانبنا شخص وصاح على النادل “قهوة من فضلك واحد منهما على العلاقة”، فأحضر النادل له فنجان قهوة وشربه صاحبنا، لكنه دفع ثمن فنجانين، وعندما خرج الرجل قام النادل بتثبيت ورقة على الحائط مكتوب فيها: “فنجان قهوة واحد”.. وبعده دخل شخصان، وطلبا ثلاث فناجين قهوة واحد منهم على العلاقة، فأحضر النادل لهما فنجانين فشرباهما، ودفعا ثمن ثلاث فناجين وخرجا، فما كان من النادل إلا أن قام بتثبيت ورقة على الحائط مكتوب فيها فنجان قهوة واحد، وعلى ما يبدو أن الأمر قد دام طوال النهار.. وفي أحد المرات دخلنا لاحتساء فنجان قهوة، فدخل شخص يبدو عليه الفقر، فقال للنادل: فنجان قهوة من العلاقة!، فأحضر له النادل فنجان قهوة، فشربه وخرج من غير أن يدفع ثمنه، ذهب النادل إلى الحائط وأنزل منه واحدة من الأوراق المعلقة، ورماها في سلة المهملات. يقول راوي القصة: طبعاً هذه الحادثة أمام أعيننا جعلتها تبتل بالدموع لهذا التصرف المؤثر من سكان هذه المدينة، والتي تعكس واحدة من أرقى أنواع التعاون الإنساني، لكن يجب علينا ألا نحصر هذا المثال الجميل بفنجان قهوة وحسب، ولو أنه يعكس لنا أهمية القهوة عند الناس هؤلاء هناك. فما أجمل أن نجد من يفكر أن هناك أناساً يحبون شرب القهوة ولا يملكون ثمنها، ونرى النادل يقوم بدور الوسيط بينهما بسعادة بالغة وبوجه طلق باسم، ونرى المحتاج يدخل المقهى ودون أن يسأل هل لي بفنجان قهوة بالمجان، فينظر إلى الحائط ويطلب فنجانه ودون أن يعرف من تبرع به، فيحتسيه بكل سرور، حتى إن هذا الحائط في المقهى يمثل زاوية لها مكان خاص في قلوب سكان المدينة. إننا لو فكرنا كما فكر أهل هذه المدينة، لعرفنا أن الدنيا مازالت بخير مادام هناك من يشعر أن هناك من يحتاج إلى الدعم، وليس شرطاً أن يكون هذا الدعم مادياً، رغم أهميته، لكن هناك الدعم المعنوي، التحفيز، التشجيع، التقدير، بعض الأحيان تكون ابتسامة تشجيع من الممكن أن تصنع المعجزات، فعمل الخير لا يتبخر كما يعتقد البعض، وعمل الخير تحمله كل ذرة هواء ليدخل في كل مكان، في رئات البشر، والحيوانات والنباتات. علينا ألا نستصغر ما نقوم به من أجل أنفسنا ومن أجل كل من يعيش على كوكبنا الجميل الرائع. فمن القطرة تتكون الأنهار ومن البذرة تتكون الغابات، ومن المحبة تتكون جغرافيا الأكوان.