كتب ثامر طيفور:

يرى باحث بحريني متخصص في قضايا الـ"ديموغرافيا" أو علم السكان، أن الاقتصاد وتخطيط التوزع السكاني، وتوجيه التنمية بشكل مدروس إلى مناطق معينة، يمكن أن يشكل أداة فعالة في مواجهة الإرهاب ونزع بيئته الحاضنة منه لصالح السلام والاستقرار المجتمعي.

 

ما هي الـ"ديموغرافيا"؟

تهتم الـ"ديموغرافيا"، بدراسة خصائص السكان المتمثلة في الحجم والتوزيع والكثافة والتركيب ومكونات النمو. و يعتبر الطريقة المبدئية لفهم المجتمع البشري، لأنه يدرس تاريخ المجتمعات القديمة، وعدد السكان والتوزيع الجغرافي والتطور الحضري، كما يدرس القضايا السكانية.

نوح خليفة، باحث بحريني متخصص في قضايا الديموغرافيا وخاصة فيما يتعلق بالبحرين، ماضيا وحاضرا. وله عدة مؤلفات هي "الرفاع .. التطور التاريخي وتأثيرات النمو الحضري"، و"نساء المحرق.. الادوار والوظائف التاريخية والمعاصرة"، و"المحرق بين الثبات والتغير .. دراسة ميدانية لمقومات التماسك الاجتماعي".

يرى الباحث نوح خليفة في حديث لـ"الوطن" أن تنمية جنوب البحرين هو دعامة للأمن والاستقرار المجتمعي، ويحذر من محاولات ضرب التعايش بين المواطنين والمقيمين. وفيما يتطرق إلى سبل تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي عبر التوزيع السكاني الأمثل، يحذر نوح من أن الخطر الأكبر على منطقة الخليج هو النشاط السكاني العقائدي. كما يعرج الباحث في حديثه لـ"الوطن" على دور الجاليات الأجنبية في المجتمع ورأيه بإقامة مدن سكنية خاصة بالعمالة.

 

المحرق والعاصمة والرفاع...قواعد الحياة العصرية

يقول نوح خليفة إن صغر حجم البحرين وطبيعتها الجغرافية المحاطة بالمياه من جميع الجوانب واكتفائها الغذائي الزراعي والبحري تاريخياً، تعتبر من العوامل التي عززت إمكانيات سرعة قيام الدولة والاستقرار السياسي والاقتصادي فيها. وان مدناً كالمحرق والعاصمة والرفاع شكلت قواعد الانطلاق الأولى للحياة العصرية في البحرين، بفعل تفوقها تجارياً ومهنياً واجتماعياً واقتصاديا، الأمر الذي جعلها مراكز جذب سكاني.

فالمحرق هي عاصمة البحرين الأولى وأضخم موانئ الغوص، وكانت تضم أكثر من ثلث الأسطول البحريني من سفن الغوص. وتتمتع بنشاط اقتصادي بارز دفع البحرين إلى البروز الاقتصادي العالمي منذ ما قبل اكتشاف النفط. وهي المدينة الأشد تأثيراً على العاصمة السياسية والاقتصادية "المنامة" التي تحتضن أول ميناء تجاري في البحرين، وهو الذي مهد للازدهار الاقتصادي المواتي للتطور الاجتماعي بفعل اللؤلؤ قديما، لتكون المنامة بوابة اقتصادية لمملكة البحرين ومركز تجمع السياح والتجار من مختلف الأديان والأعراق، ثم أصبح البعض منهم جزء من هوية البلاد.

ويعتبر نوح خليفة أن مدينة الرفاع هي أبرز محطات الانتقال إلى المعاصرة في البحرين، فمنذ اكتشاف النفط انطلقت التحولات الحضرية والاقتصادية والمهنية لسكان البلاد من أراضي الرفاع، وبفعل ذلك تنامى النزوح إليها بكثافة كبيرة وبدأ التطور الاقتصادي والحضري يأخذ طريقة إلى المعاصرة انطلاقا من تلك الرقعة الإستراتيجية، حتى أن نشأة مدينتي حمد وعيسى كانتا نتيجة حتمية لحجم النزوح نحو الرفاع حيث برزت ملامح اكبر نمو سكاني في تاريخ البحرين.

ورغم صغر البحرين كدولة، إلا أنه يجب إحاطة هذه "الدرة" بإمكانيات الاستقرار السياسي والاقتصادي واستشراف المستقبل من قلب تاريخها الفريد، حسب الباحث، فكونها مملكة صغيرة فإنها تواجه خطرا اكبر من نظيراتها الأكبر مساحة، فلو لاحظنا أماكن انتشار قلاع البحرين الدفاعية التاريخية القائمة أو المندثرة لوجدناها تتمركز على أطراف البحرين. ما يؤكد وجود تحديات أمنية في هذه المنطقة منذ الحقب التاريخية السالفة، نظرا لخيراتها الوفيرة قبل ظهور الطاقة العالمية.

 

تنمية جنوب البحرين دعامة للأمن الاستقرار

يضيف الباحث خليفة أن الطرح العلمي لموضوع السكان في البحرين يؤكد أن تنمية قرى الرفاع جنوب البحرين دعامة وطنية للأمن الإنساني والاستقرار، خصوصاً لو وضعنا بعين الاعتبار ثلاث جوانب هامة:

أولهما: العلاقة التاريخية بين الرفاع كمدينة تاريخية تعتبر محطة هامة من محطات الانتقال إلى المعاصرة خصوصاً بعد اكتشاف النفط، ومحيطها القروي الذي عرف بالعلاقة التبادلية الداعمة لمتطلبات الحياة المعيشية والاجتماعية في الرفاع منذ القدم، حيث أن تنفيذ البرامج الحضرية المواتية لتعميق الارتباط التاريخي الاجتماعي لتلك القرى يمهد لأكبر مراحل الضمان الاقتصادي والاجتماعي الداعم للأمن الإنساني للبلاد وشعبها.

وثانيهما: أن التضخم السكاني في الرفاع من جهة، وطبيعة سكان الرفاع التي تضم أجيال البحرين الأوائل النازحين إليها من مدن وقرى البحرين الأصيلة مثل المحرق والمنامة والزلاق والبديع والحد وجو وعسكر والدور وذلك قبل تطور التنوع السكاني الهائل في أرجاء البحرين، يثبت من جهة أخرى، ان القدرات البشرية المستقرة في قلب الرفاع تستطيع أن تنتج مستقرات بشرية أخرى في أنحاء متفرقة في المحيط الجغرافي الرفاعي، قادرة على النمو بما  يحافظ على خصوصيتها العرقية المنتسبة إلى نخب اجتماعية انصهرت وشكلت قوة اجتماعية تمتد من التاريخ القديم للبحرين.

وثالثهما: أن الرفاع ورغم تطورها والنمو الحضري وتبدّل مقوماتها السكانية والمعمارية والاقتصادية، مازالت تحتفظ بطابع سكني شديد الخصوصية والهدوء وتتسم بأنها منطقة استقرار اجتماعي لا يشوبها ضوضاء المدن ومشكلاتها، حيث أن التخطيط الحضري السليم يستطيع أن يطور هذا النموذج الفريد وينمي حضوره عبر تنمية قرى الجنوب ومدها بمقومات مشابهة لمقومات الرفاع.

 

ضرب التعايش بين المواطنين والمقيمين

يؤكد نوح خليفة أن وجود العمالة الأجنبية والتنوع الديني والعرقي الكبير الذي تحظى به مملكة البحرين هو عامل قوة، وأن الإرهابيين المتربصين بحاضر ومستقبل البحرين يريدون ضرب هذا التعايش. ومن الملاحظ أن جزءا كبيرا من العمالة تعايشت مع الظروف الاجتماعية للبلاد وتأثرت بقيم الشعب وأصبحت البحرين ثرية بالتنوع الموجود على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، فنحن بلد منفتح على الكثير من الثقافات .

وعن تخوف البعض بخصوص إمكانية مطالبة العمالة الأجنبية في دول الخليج والبحرين بحق المواطنة في يوم من الأيام يقول خليفة: هذا الحق يكتسب وفق الأنظمة والقوانين وهناك نماذج واضحة لمقدار المواطنة التي تتمتع بها الجاليات والأقليات. وعلى دول الخليج والبحرين رفع كفاءة الانتماء لدى سكانها من مواطنين ومقيمين، بالشكل الذي يصهر كل العصبيات العرقية والمذهبية عبر الاستثمار الأمثل في الموارد البشرية المتاحة، خصوصا لو وضعنا بعين الاعتبار أن الصراعات تدور حول الموارد والفرص سواء على مستوى القوى العالمية أو الأفراد والجماعات.

ويضيف أن العمالة الأجنبية تسكن في المناطق المتداخلة اجتماعياً وفي البيوت التقليدية القديمة بالأحياء البحرينية، والتي هجرها أصحابها نتيجة الطفرة العمرانية الهائلة ونشأة المدن الأحدث. ونقلهم إلى مدن خاصة بهم كما يطرح البعض هي فكرة غير مناسبة. والأجدر دراسة واقع العمالة الأجنبية في البحرين وآليات توطينها. كما يجب تنفيذ دراسة مسحية شاملة لمتطلبات التنمية ومدى ملائمة الأنظمة والقوانين لأهداف العقود القادمة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وأيضا مدى فاعلية القوى العاملة الموجودة في أرجاء البحرين اجتماعيا واقتصاديا.

 

اقتصاد يصهر العصبيات المذهبية ويرى نوح خليفة أن على البحرين وضع قواعد أحدث لتنمية الاستقرار والاقتصاد ونظم التفاعل الاجتماعية عبر استثمار أطراف البحرين بالتوزيع السكاني، وترسية مشروعات أمنية واقتصادية وبنى تحتية تؤسس لمستقبل أكثر أمنا لمملكة البحرين. فقد آن الأوان للتمهيد لاقتصاد بحريني يصهر العصبيات المذهبية والجماعات الرجعية والعرقيات ويخفض وتيرة التجاذبات السياسية. وأعرب عن قناعته التامة بأن الاقتصاد يستطيع أن يصهر العصبية المذهبية، وأن كفاءة التخطيط تقضي على البيئة الخادمة للمخططات المضادة لأمن البلاد وتقوض فرص العدو لتنفيذ أجندته.

 وتابع أن الخطر الأكبر على منطقة الخليج هو النشاط العقائدي وليس التمييز العرقي، فالتمييز مرحلة تجاوزها الخليج والعرب، أما النشاط العقائدي فهو أشد بأسا على الاستقرار والأمان الإنساني، خصوصا إذا دعم بمناهج التعميق والترسيخ والتبعية.

ويلفت إلى أن بعض مناطق البحرين واجهت بالفعل اختراقا أجنبيا ممنهجا، والجيد في الأمر أن المواجهة المدنية التلقائية لتلك المناهج عكست اقتدار القوى الشعبية المعتدلة على إبطال مخططات الجماعات المتطرفة. ورأى أن البرهان على وجود مناهج أجنبية للاختراق الاجتماعي لسكان بعض المناطق، هي التحركات الميدانية لجماعات العنف والتمرد التي تستغل الامتدادات الجغرافية القروية المودية او المحاذية لمدن او شوراع استراتيجية  للتاثير على النواة الأعرق للتطور الاقتصادي والحضري وتنتقي تنفيذ عملياتها الإرهابية في المناطق القريبة منها عقائدياً  باستغلال جغرافيا القرى او الجغرافيا البشرية أو جغرافيا الاقتصاد أو جغرافيا الخدمات.

ويضيف نوح أن تلك العناصر المندسة في النسيج الاجتماعي القروي تحاول الاحتماء بالمنابر الدينية، معتبرا أن السلاح الذي يخيف الإرهابيين هنا هو تعميق مقومات التنوع والانفتاح الجغرافي، والتي من الممكن ان تكون حلاً لمشكلة الإرهاب المناطقي الطائفي، فالإرهابي ينطلق ويحتمي بالمجمتع القروي، وهو مجتمع يتمتع بمقاومة اجتماعية عالية وشرسة لعمليات التحديث والتطوير، وذلك للإبقاء على النسيج الاجتماعي التقليدي، لذا تتوفر فيه عناصر الانقياد والإنصياع للتطرف، وذلك بسبب معدلات الانجاب وطبيعة مصادر الرزق والظروف الاسرية الشاملة ومستويات التعليم المتوافرة.

ودعا الباحث إلى إيجاد السبل لتحقيق الانفتاح الجغرافي انطلاقا من تضخيم بعض القرى الإستراتيجية مثل البديع واتخاذها مدخلا لشبكة طرقات وبنى اقتصادية وسياحية تسهم في صهر العصبية والانغلاق وتضمن امتداد الخدمات الدافعة بمشاريع الأمن والتسامح والتعايش بين الأديان والعرقيات والمذاهب، وتحقيق ذلك بمنهجية وطنية تحقق النفع للقرويين المعتدلين وتقطع الطريق أمام الخطط التسلطية المعادية للقيم البحرينية الواردة إلى مجتمعنا، والتي تحاول قتل شتى ملامح التنوع والتطور سعيا منها لتأسيس جبهة شعبية معادية للطوائف والعرقيات الوطنية الاخرى.