فصل الدين عن السياسة ليست بدعة سياسية ولا خروج عن الدين؛ بل هو ضرورة أملته سمو الأديان السماوية ونزاهتها، لأن التداخل بين الدين والسياسة يؤدي إلى عدم استقرار المجتمع وذلك بسبب استحالة إيمان جميع أفراد المجتمع على دين أو مذهب ديني واحد، ولكون هذا التداخل سيؤدي إلى سيطرة أي تيار ديني على المجتمع، وهذه السيطرة ستؤدي لاحقاً إلى اضطهاد أتباع المذاهب والتيارات الأخرى المعارضة له، أو على الأقل تهميش دورهم وحرمانهم من بعض حقوقهم. وهذا ما يتعارض مع العدالة ومع مبادئ النظام الديمقراطي الذي يكفل حقوق الجميع دون استثناء، ويتنافى مع التعددية السياسية وبعدم قبول سيادة أي فكر أحادي سواء ديني أو سياسي، وهذا سيؤدي إلى حدوث مجتمع غير منضبط وسيعاني من الانقسام في عدد من المجالات والأصعدة، حيث سيعمل الدينيون على استخدام السلطة الدينية لإخضاع الآخر قسراً، علماً بأن الأديان السماوية جميعها من أوائل أبجدياتها هو تعلم الإنسان الحُب الروحي للآخر الذي يُحصنه ضد التفرد والولع بالسلطة السياسية والتفرد بإدارة المجتمع على أساس اعتقاد الدينيين أنهم (وحدهم) يمتلكون الحقيقة والقادرون على فرض أفكارهم و(فهمهم) للدين على الآخرين بالقوة لكون سلطتهم -باعتقادهم- أنها مستمدة من الله تبارك وتعالى.إن ضرورة فصل الدين عن السياسة أمرٌ حتمي فرضه المجتمع العصري الحديث القائم على الاختلاف السياسي والتنوع الثقافي والفكري، وتعدد الأذواق واختلاف المصالح، وانتشار الوسائل التقنية الحديثة والاتصالات السريعة. فالأديان هي عقائد سماوية مُنزهة عن الاختلاف والإكراه والفوضى وهي ضرورية لرفد الإنسان بأساليب الطمأنينة والشعور بالسلام النفسي، إلا أن الدينيين دائماً هم ضد الاختلاف والتنوع، ويعملون على فرض هيمنتهم على أفراد المجتمع تحت ذريعة المصلحة المعتبرة شرعاً حتى ولو أدى ذلك إلى تكفير الآخر واعتباره مرتداً عن الدين. ولأجل أن يعيش المجتمع حياة مستقرة وبعيدة عن القلاقل والاختلافات يجب ترك الأمور الدينية بعيداً عن السياسة فهي أمور عقائدية وليست من الأركان الديمقراطية. وإن تمكنت هذه التيارات من تنفيذ سياستها فإنها ستعمل على الإضرار بالمجتمع وبأفراده، وستبقى الأقطار العربية قلقة جداً على حياتها ومستقبلها. وعندما نقول بفصل الدين عن السياسة لا يعني الفصل بين الدين والدولة، فلا تداخل بين المفهومين، فدين الدولة هو الدين السائد والأكثر في البلاد، فدستور مملكة البحرين في مادته الثانية ينص على أن (دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع)، وتنص المادة الأولى (د) من الدستور أن (نظام الحكم في مملكة البحرين ديمقراطي). والشواهد واضحة لدول يحكمها دينيون كما هو الحال في دولة إيران ودولة العدو الصهيوني، فهذه دول ذات طابع استبدادي وسجل كل دولة منها السياسي والحقوقي الإنساني أسوأ من الأخرى. ولا يوجد على الأرض مََن يعتبر نفسه بأنه ممثل عن رب العالمين، فمثل هؤلاء يخدعون الناس ومريديهم بأن فصل الدين عن السياسة هو عمل ضد الدين، والصحيح أن هذا الفصل يحمي المكانة السامية للدين في نفوس المؤمنين وفي المجتمع. فموضع الدين هو في القلب والعمل الخير وليس بالدين الزائف والمدفوع الثمن الذي يتصدر الكثير من شاشات الفضائيات. وفصل الدين عن السياسة لا يعني أيضاً فصله عن المجتمع، فالدين عقيدة وجزء أساسي من حياة الإنسان. ومع التحولات السياسية العربية نرى أن التيار الديني في (تونس ومصر وليبيا ولاحقاً في اليمن وقد تدخل سوريا في هذا المحراب) قد قطف ثمار ثورات «الربيع العربي»، ولم يكن من نصيب التيار الليبرالي الوطني منه والقومي والعلماني إلا اليسير. وقد يقول قائل لقد جربتم الوطنيين والقوميين والعلمانيين كسلطة وحكام.. فلماذا لا تجربوا الدينيين؟ نعم.. لقد حكمت بعض الأقطار العربية أحزاباً سياسية إلا أنه لم تكن مبادئ الحزب هي الحاكمة فعلاً بل كان الأشخاص يأخذون من مبادئ الحزب ما يتماشى من نظام الحُكم القائم، كالعراق وسوريا وغيرها من الأقطار العربية كليبيا والسودان والصومال وأرتيريا -عدا الأقطار الملكية-، فالشعب العربي عموماً لم يجرب أي حُكم ديمقراطي حقيقي في أي قطر؛ فالرئيس العربي يأتي ولا يذهب إلا محمولاً على نعشه أو باستبعاد قسري «انقلاب»، فلا الوطنيون ولا القوميون استطاعوا بناء دولة عربية عدا تجربة العراق التي تم القضاء عليها باحتلاله والقضاء على دولته التي مازالت تحت الاحتلال العسكري.فالأقطار العربية التي تنسمت الربيع العربي وتربع على عرشها التيارات الإسلامية مازالت مجهولة المصير، وغير واضحة الهوية السياسية، فهل ستكون دولاً دينية؟ أم ديمقراطية؟ وما هي ملامح دستورها إذا تغلبت التيارات الإسلامية على أكثرية مقاعد المجلس التأسيسي لوضع الدستور؟ وهل ستختلف آلية هذه الدولة أو تلك عن الحُكم السابق في نهج سياسة الترغيب والترهيب؟ كان الشعب العربي في تلك الأقطار العربية وغيرها يحلم بالتغيير ولكن لم يكن يأمل بأن يحصل هذا الأمر، والرأي يقول ما دمنا قد قبلنا بمبدأ الديمقراطية كممارسة علينا أن نقبل بنتائجها، والديمقراطية الحقيقية ليست انتخابات وشغر مقاعد البرلمان أو المجالس المحلية، بل هي ممارسة وفعل، مشاركة واحتواء، لا فردية فيها ولا إقصاء، لا استبداد فيها ولا تهميش، فالديمقراطية تعني مشاركة الجميع في صياغة القرار الوطني وبعيداً عن التنوع الديني والمذهبي. فهل يعي الدينيون معنى فصل الدين عن السياسة؟