كتب ـ علي الشرقاوي: ونحن نتابع القراءة في تجربة الصحافي الكبير محمود المردي والمجالات الثقافية التي خاضها، كمخرج وصحافي ورئيس تحرير وصاحب مؤسسة للصحافة، لابد لنا أن نشعر أن هناك ثمة هاجس يؤرق هذا الإنسان العصامي، الشغوف بالقراءة والاطلاع، المحب لإعطاء أجمل ما يملك من محبة لهذا الشعبي الذي ينتمي إليه، لأن يكون كما يحلم ويرى نفسه خارجاً من الحلم داخلاً في مصاف كبار الكتاب والصحافيين والمبدعين في العالم.ما أعنيه الرغبة القوية في أن يكون رائداً في مجال عمله، وله قصب السبق فيه، وهذا لن يأتي إلا بكسر كل القواعد المتعارف عليها - لذا لا بد من مغامرة لم يسبقه إليها أحد في البحرين، وجاءت الفرصة في الإخراج المسرحي للنادي الأهلي الثقافي، جاءت الفرصة للابتعاد عن نطاق المسرح التاريخي بمعطفه الذي دأب على تقديمه كل من الشاعر عبدالرحمن المعاودة في المحرق من خلال مدرسة الإصلاح أو أندية المحرق والبحرين، والشاعر إبراهيم العريض من خلال مدرسته في المنامة. إن هذه الفرصة هي الخطوة الأولى ولابد أن ينطلق منها إلى مجالات أوسع ولجمهور أكبر، وعلينا أن نلاحظ أن المردي بدأ بجمهور صغير، يحدثه مباشرة من خشبة المسرح وجهاً لوجه، إلى جمهور أكبر وأكثر امتداداً في الجغرافيا واللغات. ربما كانت هذه بعض هواجس المردي، قبل أن يكون صحافياً وصاحب جرائد ورئيس تحرير وقائد رأي، حيث إن الصحافة كما هو معروف تشكل السلطة الرابعة في أي مجتمع من المجتمعات. شغف الريادةشغف الريادة واحدة من أهم الدوافع التي جعلت من محمود المردي أحد المغامرين بكسر المتعارف عليه في المسرح البحريني، والخروج من التاريخ إلى الواقع اليومي المعاش، سواء على المستوى المحلي أو العربي. الريادة بهذا المعنى شعور جارف، وشغف بالعمل، شغف يومي -لا يكاد أن يتوقف حتى يشتعل مرة أخرى بصورة أقوى من السابق- ودعوني أخبركم لماذا أتحدث بهذه الصورة عن شغف وشوق المردي بالريادة في كل المشاريع التي عمل على إنجازها. أرى دائماً أن الخارج ما هو إلا انعكاس الداخل، الخارج ليس غير المرآة لكل واحد منا، فكل شيء بدا من الداخل، ويتموضع بعد فترة، تطول أو تقصر، بالصورة التي تشكلت في أفكارنا وغذيناها بمشاعرنا، وحولناها إلى سلوك يومي نمارسه بصورة شبه عفوية، نرى هذه الصورة أمامنا في واقعنا المعاش.هاجس الريادة عند المردي ما كان له أن يخف أو يهدأ إلا بعد أن تحول إلى واقع يراه يومياً شاخصاً أمامه، وهو إطلاق اسم رائد على ابنه الأول، وكان يذيل توقيعه باسم أبورائد، وهو في تصوري دليل قاطع على أهمية ريادة يحملها داخل قلبه، منذ دخوله المجال الثقافي من باب الإخراج المسرحي.كان المردي يحب أن يرى ريادته واضحة أمام الناس جميعاً، وربما تعب أن يحمل هذا الهاجس وحده، فأراد أن يتذكره الناس به ويذكر به نفسه كلما نادوه الناس بـ»أبورائد».بدأ المردي تجربته في الإخراج المسرحي من خلال تصديه لإخراج مسرحية «لولا المحامي» من تأليف اللبناني سعيد تقي الدين.. البعض يقول في عام 1941 والبعض الآخر يقول عام 1943.فإذا كان المردي أخرج المسرحية في عام 1941، فهو كان في عمر السابعة عشرة، باعتباره من مواليد عام 1924، وإذا قدمها عام 1943 يكون بهذه الحالة في التاسعة عشرة من عمره.في الحالتين هو شاب طموح يحاول أن يكون رائداً في هذا المجال الفني الجديد على الساحة البحرينية. هم الجدة وبالتالي الريادة هو ما دفعه للحصول على نص مسرحية «لولا المحامي».المردي البحريني وتقي اللبنانيأسئلة كثيرة تطرح نفسها أمامي، ما العلاقة بين المردي البحريني بتقي الدين اللبناني المهاجر، وكيف وصل النص إلى المردي في البحرين؟ وكيف كان المردي ينظر للمسرح؟ وماذا كان يريد منه؟.هل شاهد المردي مسرحيات قبل أن يخرج مسرحيته «لولا المحامي»؟، وما هي هذه المسرحيات؟ وأي الأفكار تنازعته وهو يحاول أن يقلب المسرح البحريني الذي كان يسير بشكل أفقي في مجال المسرح التاريخي؟ ويقلبه بشكل عمودي، كي يتحدث عن هموم الناس، وهي نفسها هموم المردي أيضاً. مسرحية «لولا المحامي» قلنا إنها من تأليف اللبناني سعيد تقي الدين، فمن هو سعيد تقي الدين؟.ولد سعيد تقي الدين في بعقلين يوم 15 مايو 1904، دخل مدرسة الأنطونية في بعبدا خلال الحرب الأولى، وأصبح طالباً في الجامعة الأمريكية 1918، انتسب إلى جمعية العروة الوثقى داخل الجامعة عام 1921، وتولى عدة مسؤوليات فيها، إلى أن أصبح رئيسها ورئيس تحرير مجلتها الخطية عام 1924.نشر تقي الدين العشرات من المقالات والقصص القصيرة في بعض الدوريات البيروتية والدمشقية والمصرية، وألف باكورة مسرحياته «لولا المحامي» عام 1924 وقدم لها الشاعر خليل مطران، وكتب مسرحيته الثانية «قضي الأمر» عام 1925، تخرج من الجامعة الأمريكية عام 1925، هاجر إلى الفلبين في سبتمبر 1925 وعمل في التجارة.كتب المسرحية الثالثة «نخب العدو» في مانيلا 1937 وطبعت في بيروت عام 1946 مع مجموعة قصص قصيرة بعنوان «الثلج الأسود»، أسس في مانيلا عام 1945 الجمعية اللبنانية السورية وانتخب رئيساً لها، تزوج في الفلبين من العازفة بياتريس جوزف «أصلها من زحلة» ورزق ابنة وحيدة هي العازفة العالمية ديانا.أصدر في العام نفسه 1955 كتابين «سيداتي سادتي» وهو مجموعة خطب، و»تبلغوا أو بلغوا» وهو عبارة عن مقالات عقائدية وسياسية قومية اجتماعية، وأصدر في العام 1957 مجموعة مقالات أدبية واجتماعية بعنوان «غبار البحيرة»، وفي العام نفسه أصدر ثلاث كراريس بالإنجليزية بعنوان «العالم العربي» ضمنها نقداً لاذعاً باتجاه الإنجليز والأمريكان واليهود والنظام اللبناني وبعض رموزه خاصة الرئيس كميل شمعون. أصدر في عام 1960 في بيروت «رياح في شراعي»، وضمن معظم صفحات مذكراته في الفلبين، وكتب في العام 1960 كتابه الأخير «أنا والتنين» وأصدر أيضاً في بيروت عام 1961، رحل سعيد تقي الدين في جزيرة سان أندروز إثر نوبة قلبية يوم 10 فبراير 1960.لولا المحامي «لولا المحامي» مسرحية جدية في خمسة فصول، موضوعها ثورة على الإقطاع في القرية اللبنانية، يقوم الصراع في الظاهر بين شابين، الأول ابن إقطاعي غني، والثاني فقير، هاجر إلى أمريكا بعد أن تعاهد مع فتاة على الحب، وبعد عودته علم أن أهله ماتوا جوعاً، فثار غضباً لأنه أرسل مالاً كثيراً إلى أهله عن طريق الإقطاعي، الذي استأثر بالمال لنفسه، ومن هنا يبدأ الصراع وأحداث المسرحية.تصف طفلة الخليفة هذه المسرحية بأنها أول تجربة مسرحية حاولت تقديم أحداث اجتماعية من واقع الحياة السائدة في المجتمعات العربية، ثم تبع وأعقب هذه المسرحية سلسلة طويلة من المسرحيات تذكر من أهمها «دموع» عام 1944 و»موسى الهادي» التي أعدها وأخرجها محمود المردي، وفي هذه التجربة تظهر لأول مرة فتاة تمثل على خشبة المسرح.مسرحية «نخب العدو» عام 1946، فهي مسرحية كوميدية ذات ثلاثة فصول، موضوعها الصراع الطائفي في القرية اللبنانية، وبث روح الألفة والمحبة بين أبنائها.ومن الشعر الذي تضمنته «نخب العدو»«بين داري ودارك دربتوصل بابينافي صدري وصدرك حبيغمر قلبينانهدم وراثة البغضمن عهد أجدادناونحيا لبعضنا البعضونبني لأولادنا»مغامرة الريادة مجدداً في عام 1947 قدم النادي الأهلي في البحرين مسرحية «عبدالرحمن الناصر» من إعداد وإخراج محمود المردي، ويرى قاسم حداد أن هذه المسرحية تمثل علامة بارزة في تاريخ النشاط المسرحي البحريني آنذاك من حيث التجسيد الحي للمناظر المسرحية والتي نفذها الفنان يوسف قاسم. وبما أن أحداث المسرحية تدور في الأندلس، وفي عصر له خصوصيته المعمارية والتشكيلية، فإن يوسف قاسم قدم رؤية تشكيلية متقدمة لهذه المسرحية، إذ صنع تماثيل من الجبس لإبراز قصر الحمراء، وأسود يخرج الماء من أفواهها مع العلم أن المياه لم تكن موصلة عام 1947، وهو بهذه الرؤية يكون استجاب موضوعياً وفنياً لمتطلبات هندسية حتمها النص المسرحي ذاته، كما زاوج بين رؤيته التشكيلية الخاصة، وبين متطلبات النص المسرحي الذي فرض لوناً مسرحياً خاصاً هو فن هندسة المعمار الأندلسي وبين رؤية مخرج العرض، ويكون بالتالي قدم حلولاً منطقية علمية ساهمت في دفع هذه التجربة نحو النجاح.الناصر لعزيز أباظة تستعرض د.فاطمة موسى مسرحيات شاعرنا الكبير عزيز أباظة من خلال كتابها القيم «قاموس المسرح» فتقول «تناول المؤلف في مسرحية الناصر الصادرة عام 1949عصراً من عصور الأندلس الزاهية في عهد عبدالرحمن الناصر، لكنه ازدهار أعقبه صراع دموي بين ولديه الحكم وعبدالله الذي تآمر مع الفاطميين المعادين للناصر».وتستغل الجارية مني ابنة أحد الأمراء الإسبان هذا الجو المشحون بعوامل السخط والفرقة لتكيد للناصر لتقويض أركان الخلافة لمصلحة الإسبان.وعزيز أباظة (3 أغسطس 1899 ـ 1973)، شاعر مصري يعد رائد الحركة المسرحية الشعرية بعد أحمد شوقي، إضافة إلى كونه المدير السابق لعدة أقاليم مصرية منها القليوبية والمنيا وبورسعيد وأسيوط.نشأته وحياتهولد في منيا القمح في محافظة الشرقية عام 1898 وتلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة الناصرية، وأكمل دراسته في كلية فيكتوريا في الإسكندرية ثم المدرسة التوفيقية بشبرا ثم المدرسة السعيدية، درس القانون وتخرج من كلية الحقوق بالقاهرة عام 1923، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1965.اتسم أسلوبه بالجزالة والقوة والفخامة، له ديوان شعر بعنوان «أنات حائرة» نشره عام 1943 وألف تسع مسرحيات شـعرية هي قيس ولبنى نشرت عام 1946، العباسة 1947، الناصر 1949، شجرة الدر 1950، غروب الأندلس 1952، أوراق الخريف 1957، قيصر 1963، زهرة 1968، من إشراقات السيرة النبوية «يضم أهم الأحداث عبر السيرة النبوية الشريفة بصياغة شعرية»، ديوان عزيز أباظة وصدر بعد وفاته، وضم أربعة دواوين في العاطفة والقومية والرثاء وقصائد أخرى، كتاب «أشعار لم تنشر لعزيز أباظة»، أصدرته ابنته عفاف أباظة بعد وفاته ويضم أشعاراً لم تنشر في أي من الدواوين والمسرحيات السابقة.في كتاب «المسرح التاريخي في البحرين» الصادر عام 1985 للباحث البحريني مبارك الخاطر، نقرأ شيئاً عن هذه المسرحية يستشهد فيه د.محمد حسن عبدالله عن هذه المسرحية بحديث يوسف قاسم إنه بنى للمسرحية مسرحاً من الخشب في ساحة الجامع الغربي من المنامة، قرب عين الماء الملاصقة سابقاً للجامع، بحيث تمكن حمله من السقائين من نقل الماء إلى الخزان الذي وضعه محمود المردي مخرج المسرحية والفنان يوسف قاسم ليزود أنابيب الأسدين بالماء، وهو أيضاً ما أكدت عليه الصحافية طفلة الخليفة في بحثها «تجاربنا المسرحية بين الماضي والحاضر» عام 1972.وما يزال -والكلام لمبارك الخاطر- الأسدان اللذان صنعهما بالحجم الطبيعي يذكران بالإعجاب الشديد إلى اليوم، فجلب الطين من منطقة الرفاع، وهو طين ناعم يصلح لصنع الأواني الخزفية، وخلطه بشعر الماعز، ثم صنع الأسود من دوائر مفرغة، وأجرى في داخلها أنابيب من المطاط أخذها من حقن شرجية قديمة، إذ لم تكن الأنابيب المعدنية متوفرة، وهذه الأنابيب وصلت بخزان مائي خلف المسرح، كما طلي اللبن بمسحوق ذهبي اللون.بين التاريخي والأخلاقيمن أهم الباحثين الجادين في قراءة جذور المسرح الخليجي، الناقد والمفكر د.إبراهيم عبدالله غلوم يقول في آخر كتبه «المسرح الموازي سوسيولوجيا البدايات المسرحية والوعي القومي في مجتمعات الخليج العربي 1925 - 1958» إن النادي الأهلي «تأسس عام 1939» ينفرد بسلسلة من الأعمال المسرحية تتراوح بين التاريخ والأخلاق، من بينها مسرحية دموع عام 1944 ومسرحية «الهادي» 1947، ومسرحية «عبدالرحمن الناصر» إخراج محمود المردي عام1947 وهي مسرحية لقيت نجاحاً في تشكيل العرض المسرحي. ويضيف غلوم «لعل آخر ما قدمه النادي مسرحية نخب العدو 1948 للكاتب ولهذا الكاتب مسرحية أخرى وهي (لولا المحامي) وأخرجها محمود المردي ونشرت عنها جريدة البحرين إعلاناً بهدف التشجيع على حضورها ويتضمن إشارة واضحة إلى الموضوع الإنساني الذي تدور حوله المسرحية، ويقول الباحث في الهامش «ورد الإعلان عن مسرحية (لولا المحامي) كما يلي «رواية أدبية اجتماعية غرامية موسيقية اختيرت لما تنطوي عليه من معان إنسانية، إننا إذ نحث الجمهور على مشاهدتها فإننا في نفس الوقت نهيب أن يسارعوا إلى مشاهدة صورة من صور الحياة ناطقة بكل معاني الإنسانية ـ جريدة البحرين 18 مارس 1943 عدد 211».ويرى الباحث في مسرحية «لولا المحامي»، أن هذه الصلة المتلازمة بين مسرحية الدرس التاريخي والأخلاقي، وبين الفضاء العام للمكان الذي يستقطب قطاعاً اجتماعياً عريضاً، تكشف لنا عن ظرف تاريخي ينأى عن الفردية، ويبحث عن رابطة عامة وخلاص شامل، وملاذ يرتبط بالجذور الإنسانية والهوية القومية، ولذلك فالتوجه نحو بناء الفضاء العام كائن في مسرحية الدرس القومي، كما إنه كائن في المدرسة أو النادي أو الجمعية.من أهم الملاحظات التي من الممكن أن نراها واضحة هي أن الكثير من الكتابات تؤكد أن مسرحية الناصر نشرت عام 1949، ولكن الكتابات التي تحدثت عن مسرحية عبدالرحمن الناصر قدمت عام 1947 على خشبة المسرح البحريني، السؤال الذي يطرح نفسه علينا كيف وصل النص إلى المردي؟ هل هناك ثمة علاقة بين الشاعر عزيز أباظة والمردي؟ أم أن هناك خطأ ارتكبه من وثقوا لتلك الفتــــرة؟.