بعد جولة انتخابية ماراثونية شهدت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واكتساح الجمهوريين لمجلسي الشيوخ والنواب، الأثر الذي يمتد صداه بطبيعة الحال إلى مختلف أرجاء العالم، فعودة ترامب الدرامية إلى البيت الأبيض وحملته الانتخابية التي شهدت الكثير من التحديات جعلته يعود بروح انتقامية وسعي لتصحيح ما يعتبره مؤامرة حيكت ضده، فعودة ترامب بهذه الصورة ليست مجرّد انتصار لتيار معيّن، بل تمثّل تغييراً جذرياً في مسار السياسة الأمريكية، ستؤثر على عدة مستويات عالمية وإقليمية.

فأوروبا التي مازالت تعاني من تداعيات اقتصادية، تعيش الآن حالة من الصدمة وعدم اليقين، فترامب الذي وضع حلف "الناتو" في موقف دفاعي خلال فترة حكمه الأولى، سيعود ليضغط على الأوروبيين لمزيد من المشاركة المالية في الدفاع، وفي ظل هذه التحديات الاقتصادية والانقسامات السياسية المتصاعدة، قد تجد أوروبا نفسها مضطرة لمراجعة تحالفاتها، بينما تنمو قوة التيار اليميني فيها كرد فعل لنجاح ترامب.

أما الكرملين فهو يحتفل من ليلة إعلان النتيجة، فمنذ بداية الصراع في أوكرانيا، كانت موسكو تسعى لرؤية قيادة أمريكية تتبنّى نهجاً أقل عدوانية تجاهها، وهذا ما سيتحقق مع وصول ترامب لسدّة الرئاسة، فروسيا ترى بوجوده فرصة لتعزيز موقفها في شرق أوروبا وربما حسم ملف أوكرانيا لصالحها، خاصة وأن ترامب قد يخفّف من دعم "الناتو" المتردّد أساساً.

وفي الوقت الذي تحتفل فيه روسيا، تقف الصين في موقف مترقّب، فالجميع يعرف عداءه الاقتصادي تجاه الصين الذي صرّح عنه بكل وضوح في عدة مناسبات، ويُتوقع أن تُصعّد المواجهة الاقتصادية من جديد، بيد أن الصين تُدرك أنه على الرغم من صرامة ترامب في القضايا الاقتصادية، إلا أنه أقل ميلاً للدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، وهذا الوضع المعقّد يجعل الصين تقف بين التحدي والفرصة في علاقتها بواشنطن.

أما بالنسبة لمنطقتنا العربية، فإن سياسة ترامب لاتزال غير متوقعة، فهو رجل صفقات وقد يسعى لإبرام اتفاقات قد تبدو متناقضة، وبالرغم من ذلك يظن المحلّلون العرب أن رحيل إدارة بايدن سيمثل انفراجاً لبعض دول المنطقة، لاسيما في ظلّ دعمه غير المشروط لإسرائيل، ولكن يجب علينا أن نتذكر أن ترامب ليس "حمامة سلام"؛ إذ يمكنه اتخاذ قرارات صعبة كما فعل سابقاً في القدس والجولان، ولهذا يجب علينا الاستعداد لمواجهة سياسات قد تحمل تبعات طويلة الأمد، خاصة فيما يتعلّق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وملفات أخرى ساخنة.

أما إيران فهي ترى في فوز ترامب تحدياً وجودياً، فقد وعد ترامب باستهداف منشآتها النووية، وهو ما سيدفع طهران لتسريع خططها وتحريك المعتدلين لمواجهة الضغط الدولي، وبالمقابل تركيا تأمل في تحسين علاقاتها مع واشنطن، خاصة في ظلّ تردّي العلاقة مع الديمقراطيين فيما يخص القضية الكردية، وبالعكس تماماً عند الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فهو يتمتع بعلاقة شخصية ودّية مع ترامب، وقد يجد فرصة لإعادة ضبط سياسته الإقليمية.

إن عودة ترامب للرئاسة ليست مجرّد تحوّل سياسي داخلي، إذ تعكس انقساماً مجتمعياً عميقاً سيؤثر على الساحة الدولية، ويُتوقع أن يسود القلق والاستقطاب عالمياً، الأمر الذي سيدفع الدول نحو بناء تحالفات إقليمية جديدة، فالنظام الدولي الحالي أصبح أكثر هشاشة، مما قد يفتح الباب لتغيّرات جذرية في موازين القوى.

هذه الريمونتادا التي قام بها ترامب ليست مجرد عودة شخصية مثيرة للجدل لرئاسة أقوى دولة في العالم، بل هي انعكاس لتحوّلات عميقة في السياسة الأمريكية والعالمية، فالنظام الدولي يواجه فترة من التغيير الحاسم، وعلى دولنا استغلال هذه اللحظة بحكمة لتحقيق مصالحها.