أمام تسارع الثورة الرقمية وتوسع الذكاء الاصطناعي في مختلف مناحي الحياة، تجد الدول المستوردة للتكنولوجيا نفسها، في ذات الوقت، أمام تحديات وفرص جديدة، وإشكالية تحقيق موازنة بين الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي، والحفاظ على القيم المدنية والأخلاقية والثقافية، خاصة بالنسبة للدول العربية التي تتمتع بالالتزام بموروثها الثّقافي والأخلاقي الذي يضرب عمقاً في التاريخ.في مبادرة ضمن هذا الإطار، نظم معهد البحرين للتنمية السياسية بالتعاون مع اتحاد الصحفيين الخليجيين، مؤخراً، ندوة تحت عنوان «دور الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي في تشكيل الوعي السياسي» بمركز عيسى الثقافي، بحضور وزير الإعلام د. رمزان النعيمي، وجمهور عريض من الأكاديميين والإعلاميين والصحفيين والمثقفين، وطلبة الإعلام من جامعات ومراحل مختلفة.استضافت الندوة نخبة من المتحدّثين من أبرز النشطاء الأكاديميين إعلامياً والمسؤولين محلياً وخليجياً في المجال ذات العلاقة، شملت اللواء محمد بن دينه مدير عام الإدارة العامة للإعلام والثقافة الأمنية بوزارة الداخلية بمملكة البحرين، والأستاذ عبد الله خليل بوحجي مدير عام وكالة أنباء البحرين «بنا»، والدكتورة غدير كيال عميدة الجودة والاعتماد بجامعة الأمير محمد بن فهد، بالمملكة العربية السعودية، والدكتورة موزة بنت عبد الله الرواحية الأستاذة المساعدة في الصحافة والنشر الإلكتروني بجامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان، والدكتور شريف بدران عميد كلية الاتصال وتقنيات الإعلام بالجامعة الخليجية بمملكة البحرين، حيث أدار الجلسة الأولى السيد محمد الجهمي مدير إدارة البرامج والتطوير السياسي بمعهد البحرين للتنمية السياسية، وأدار الجلسة الثانية السيد محمد يوسف خلفان المستشار الإعلامي لدى اتحاد الصحفيين الخليجيين.سلّطت الندوة الضوء على دور الإعلام الرقمي وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في التأثير على تشكيل الرأي العام وتوجيه الوعي السياسي، من خلال جلسات ناقش فيها المتحدثون أبرز التحديات والفرص التي تتيحها هذه الأدوات، منوهين بأهمية استخدامها بشكل مدروس يخدم المجتمع، ويعزز نضج ممارسة الأنشطة السياسية، وطرح أفكار هادفة وملهمة حول إمكانية الحفاظ على دور الإعلام والصحافة في بناء الوعي المجتمعي السياسي وتعزيز المشاركة البناءة في ظل استخدام الإعلام الرقمي وتوظيف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المجال الإعلامي.وتضمّنت الندوة تحليل التأثيرات المتزايدة للتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي خاصة على المجتمع الخليجي، لا سيما فيما يتعلق بالتوعية السياسية وتوجيه الرأي العام، في إطار جدلية مدى خطورة تقبّل واحتضان هذه التقنيات ذات ازدواجية التأثير الإيجابي والسلبي وتبنيها في آليات الصرح الإعلامي الخليجي لهذه التقنيات ذات الازدواجية في التأثير الإيجابي والسلبي في آنٍ واحد، أو مدى إمكانية الاستغناء عنها أو تحقيق التوازن والتأقلم مع التحدّيات التي تشكّلها تجاه المنظومة الثقافية للدول الخليجية والعربية بصفة عامة.في ظل تسارع تطور وتعميم التكنولوجيا الرقمية، ومع الانتشار السريع لمنصات التواصل الاجتماعي، وجدت تقنيات الذكاء الاصطناعي منفذاً لتحتلّ جزءاً أساسياً في حياة الفرد اليومية، لتكون أحد روافده الإخبارية وأداة من أدوات وعيه السياسي، ومنفذاً في رقمنة الخدمات والوظائف ومواقع الهيئات الحكومية والمؤسسات الخاصة لتتسلّل إلى مختلف القطاعات والمجالات بما فيها السياسة والإعلام. فقد أصبح هذا الانتشار المتزايد والتأثير المتصاعد، سيما في مجال الإعلام يثير قلقاً كبيراً، حيث يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق قد تؤدي إلى التلاعب بالمعلومات، ونشر الأخبار الزائفة، والاستقطاب السياسي، والتلاعب بالفيديوهات والصور على غرار بعض الحملات الانتخابية، باستخدام تقنية «التزييف العميق» (Deepfake)، في الذكاء الاصطناعي لإنتاج مقاطع فيديو مزيفة، تُظهر فيها المرشحين يقولون أو يفعلون أشياء قد لم تحدث في الواقع، حيث تُوظف هذه الفيديوهات ضدّ المنافسين السياسيين لإضعاف ثقة الجمهور بهم وإثارة الجدل حولهم، مما يثير تحسُّبات أخلاقية وقانونية، من أن يطال هذا الأمر المنظومة الأخلاقية والاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلدان الخليجية وكذلك العربية.فالسؤال المطروح هو: كيف يمكن توجيه استخدام هذه الأدوات بشكل يوازن بين الاستفادة من إمكانياتها الهائلة وبين حماية الرأي العام وضمان نزاهة وشفافية الإعلام؟للإجابة على هذا السؤال طُرحت حلول احترازية، تمثّلت أساساً في عملية التّوعية الجماعية والممنهجة والمدرجة في المناهج التعليمية، فيما رأى البعض توظيف الإعلام الرقمي بحدّ ذاته كقوة توعوية باعتبار سرعة وصوله إلى جميع أطياف المجتمع بمختلف مراحله العمرية، سيما فئة الشباب لكونها الأكثر استخداماً لهذه الوسيلة بأشكالها العديدة، وأشار البعض الآخر إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في حدّ ذاته كأداة توجيه تمكّن من تحليل بيانات ضخمة بشكل فوري، مما يمكن من تخصيص المحتوى المناسب لكل فئة من فئات المجتمع.وقد أكدت الأغلبية في هذا الصدد على أهمّية التعاون الخليجي في المجال الإعلامي الرقمي، وارتَأى المتحدّثون والمشاركون أن الدول الخليجية تحتاج إلى توحيد الجهود في مواجهة تحديات الإعلام الرقمي، وذلك من خلال تبادل الخبرات والتجارب الناجحة، فتمّ الحث على ضرورة تأسيس سياسات خليجية مشتركة، تؤطِّر منصّات ومضمون الإعلام الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الاتصال، بما يعزز الوعي السياسي المشترك ويحافظ على هوية المنطقة.لقد خلُصت النّدوة إلى أنّ الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي يمثلان فرصاً هائلة إذا تم استخدامهما بحذر ومسؤولية، وأن التحدي الأكبر يكمن في إدارة هذا التوجه الرقمي بضوابط قانونية، تتسم بالهوية الثقافية، والشفافية، مع الحفاظ على دور الإعلام كوسيلة لنشر الوعي والتثقيف بدلاً من كونه أداة توجيه أو تأثير سلبي.