تستخدم إيران «الخطاب» «كأداة» بشكل براغماتي، تقلباتها لا تقف عند سقف معين حين تسل تلك الأداة لاستخدامها من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فبإمكان خطابها أن يذهب عكس اتجاه بعضه بعضاً أو عكس ما يحصل واقعياً إلى حد التناقض، دون أن يرف لإيران جفن، تلك عقلية لا يستوعبها العقل العربي الذي دأب على مقياس العديد من القيم الإنسانية «كالشجاعة والصدق والإقدام والرجولة وووو» بناء على مدى تطابق القول مع الفعل.إنما بالنسبة للنظام الإيراني فالخطاب أداة تتنوع أغراضها حين يشتد ويتصاعد وحين يرتخي ويلين فليس بالضرورة أن ذلك يعكس الخطاب وواقع العمل السياسي، وما ينوي القيام به، إذ يعتمد تنوعه خفضه ورفعه وصراخه وبكاءه كثيراً على عدة عناصر أهمها الشرائح المستهدفة التي يرغب في التأثير عليها، أو حين يريد أن يستخدمه من أجل رفع سقفه في التفاوض مع خصم هنا يجوز للنظام أن تبرز أنيابه الخطابية ليحظى بأقصى ما يمكنه من مكاسب.نحتاج أن نفهم تلك البراغماتية إذ إن هناك إيرانين بعيدين عن بعضهما البعض خطابياً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، فإلى أي حد هذان الخطابان بعيدان عن بعضهما على أرض الواقع لا على أرض المايكروفونات والمنصات؟ وأي من الخطابين له الغلبة في هذا الواقع؟المرشد الإيراني علي خامنئي مهدداً أمريكا وإسرائيل في خطابه ويسميهما بالعدوين ويعدهما بأنهما سيتلقيان رداً حاسماً قوياً، وخطابه دائماً ينتهي بهتافات المتلقين بالموت لأمريكا وهذا هو المطلوب، وذلك خطاب موجه لأتباع المرشد من الإيرانيين والذين لا يتوقعون منه أقل من هذا الخطاب تشدداً.بالمقابل حين اجتمع المندوب الإيراني في الأمم المتحدة أمير سعيد ايراواني مع إيلون ماسك مستشار الرئيس ترامب الأسبوع الماضي حثه على الاستثمار الأمريكي في إيران وعقد صفقات تجارية ورفع العقوبات وذلك وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز!! وذلك عطفاً على ما قاله الرئيس الإيراني المنتخب «بزرشكيان» حين زار الأمم المتحدة مؤخراً (نحن الإيرانيون والأمريكيون إخوة)!المهم أن نعرف أن صحيفة «نيويورك تايمز» نقلت هذا الحوار اللطيف على لسان مسؤولين إيرانيين، أي أن الإيرانيين هنا يستهدفون الشعب الأمريكي في خطابهم وكانوا حريصين على وصوله للمتلقي الأمريكي.التناقض راديكالي إلى أقصى حد دون أن يرف لإيران جفن أو تضطر حتى أن تبرره، وكأن أسبابه محسومة ومعروفة لا تحتاج إلى شرح، ما يريد أن يسمعه الإيراني سيحصل عليه من مرشده، إنما خطابات طاولة التفاوضات الإيرانية غير معنية بخطاب المرشد.فإن وضعنا تلك التناقضات الخطابية موضع المقارنة في الخطابات الإيرانية الخاصة بمنطقتنا العربية بين خطاب يصف الخلاف الإيراني مع دول المنطقة إنها معركة بين (يزيديين وحسينيين) في إسقاط تاريخي مقصود وصف فيه كل مَن يختلف مع إيران على أنه يختلف مع سبط رسول الله الحسين عليه أفضل الصلاة، وذلك خطاب طائفي صارخ يستهدف فيه الطائفة الشيعية الولائية في دولنا الخليجية ويهدف لعزلها عن محيطها وتلك دعوة خطيرة تهدد أمن تلك الدول.وبين خطاب آخر لا يتسق معه أبداً، يتكرر في زيارات قام بها وزير الخارجية الإيرانية لدول الخليج عارضاً الود وفتح الصفحات الجديدة وطالباً التعاون، وقد استجابت دول الخليج للخطاب الثاني، إذ تبع تلك الزيارات خطاب خليجي يندد بالعدوان الإسرائيلي على طهران.الملفت للنظر أن التعاطي الخليجي مع الشأن الإيراني اختار أن يتبع خطاب الساسة الإيرانيين، ويتجاهل خطاب المرشد مراهناً على قدرة الساسة الجدد ومسؤوليتهم في سد الفراغات بين الخطابين، وعلى أن تلك مهمة تقع على عاتق الداخل بين صانعي القرار الإيراني.الظروف كلها مواتية لتقوية خطاب الساسة الإيرانيين ولتعزيز هذا النهج التصالحي، الظروف مواتية في الداخل الإيراني حيث تحظى هذه الدعوة بموافقة الشعب الإيراني بدليل انتخابهم لمن رفعها شعاراً في حملته، والظروف مواتية إقليمياً بعد أن انهار مشروع التيار المتشدد الحالم بالإمبراطورية الإيرانية على حساب أمن دول الخليج، والظروف مواتية دولياً بعد صعود اليمين الغربي وبعد فوز ترامب.علاقة دولية طبيعية بين إيران الدولة مع دول الخليج ستكون خيراً لشعوب الضفتين، فهل يتمكن هذا الخطاب من السير قدماً وتجاهل خطاب اليزيديين والحسينيين؟