يحدثني أحد الأحبة عن منهجية مفهوم «الأثر» الذي أحب أن أتطرق إليه في كل مناسبة، وأحب أن يكون بين ثنايا أي موضوع أتطرق إليه، ويدعوني بأن أجمع كل ذلك في صفحات تبقى خالدة للأجيال.
وسبحان الله كلما ابتعدت قليلاً إلى موضوعات أخرى، أرى قلمي يميل بأن يكتب مُجدداً عن الأثر، ويتطرّق إليه في كل مناسبة، وقد وجدته بأنه شريان يمتد في كل مناحي حياتنا ومواقفنا ومحطاتنا.
فالدينا كلها عطاء وأثر.. وليحذر المرء بأن يجعل من خطواته في المسير «خطوات من الأثر السلبي» الذي يعود عليه بالإثم والجريرة.
يقول المولى عز وجل: «إنا نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مُبين». وكما جاء في التفسير: «نكتبُ ما قدموا في الدنيا من خير وشر، ونكتبُ ما تولّد عن ذلك من آثار، وما تسبّبوا في إيجاده من ذلك في حال حياتهم وبعد وفاتهم، ونكتبُ آثار خُطاهم إلى الطاعة أوالمعصية، فنجزيهم على ذلك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر».
لذا فإن الأمر خطير يجدر معه بأن يُراجع المرء خطواته، ويوزنها بميزان الخير والشر، ومن الضرورة بمكان أن يُراجع علاقته مع ربه، حتى يستطيع أن يتجنّب كل خطوات الشر، ويُبدلها بخطوات الخير، وأن يجعل حياته كلها إحسان في أثر الخير والإيجابية.
وفي ظل هذه المفاهيم التي يجب أن تتشرب بها نفوسنا ونعمل بها في إحسان الحياة، تتعمق في أذهاننا أهمية العطاء الذي هو أساس بقاء الصورة الذهنية الإيجابية لدى كل من تتعامل معه في مواقف الحياة، وأهمية أن تراجع حساباتك وتُدرك أن «مردنا إلى الله»، وأن الدنيا بسرعتها المُخيفة لا تُمهلك الكثير حتى تُعطي بما تحلم به وتسعى إلى تحقيقه.
في كل يوم تشرق فيه شمسه، أحس بأني في أمسّ الحاجة لكي أولد من جديد، وألبس ثوب العطاء بهيئة جديدة تسر الناظرين غير تلك المعتادة. أشعر بأن التحدي القادم يدفعني بأن أقدّم عطاءات أفضل من تلك التي مضت.
وأن أسعى إلى رسم عطاءات جديدة في أيام الحياة المُتسارعة قبل أن يأتي يوم تتوقف فيه العجلة بلا عودة! عندما تتشرب نفسك مفاهيم العطاء والأثر الإيجابي، فإنك حينها لن تقبل أن تسيّر حياتك بلا أهداف، وتعيش مُنزوياً عن كل شيء، ولا تقبل أن تكون تقليدياً جامداً، بل ستكون الأداة التي تُغيّر وتتفاعل مع الكون. جميل أن تُحسّ بأنك موجود لتكون فاعلاً في كل محطاتك، وأن تكون طاقتك مُباركة في المكان، وتشجّع من حولك للعطاء اللامحدود.
وسترسمها جيداً حتى تزيد من مُحبيك ومن أولئك الذي تتواصل معهم، وأولئك الذين كان لك الفضل من بعد فضل الله تعالى في تغيير حياتهم وخدمتهم بصورة إنسانية راقية.
بالأمس رحل الدكتور يوسف محمد الذي ذكره الجميع بالخير والعطاء الوطني الخصب، ومنذ أن عرفته وابتسامته لا تُفارق محيّاه، ويُعاملك بأريحية وبأخلاقه العالية، وسيرته الوطنية المعطاءة تتحدث عن أثره الإيجابي في الحياة وفي خدمة الوطن.
هو صورة رائعة من صور أولئك الذين خلّدوا أثرهم في الحياة، ورحلوا بهدوء كما عملوا بهدوء، وبالأمس تحدث بأهمية أن نُخلّد ذكر من رحلوا بآثارهم الإيجابية، واليوم نُخلّد أعماله ونستذكرها، وفي الغد سيأتي من يتحدث عنا وعن مآثرنا.
وهكذا هي الحياة قصيرة جداً في كل خطواتها.. ومؤلم جداً أن نضيع أوقاتها في القيل والقال وفي المهاترات والمُصادمات والمُشاحنات، ومن ثم نتحسر على أوقات مضت دون أن نعمل فيها خيراً أو نذكر الله تعالى ونُصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم.. ومؤلم أن يمضي قطار العمر ثم تجد نفسك وقد أرهقتك الحياة وضعفت قواك ولم تعد قادراً أن تُقدّم أي شيء. رحم الله الدكتور يوسف وغفر له وتقبّل منه ما قدّم ورحم الله تعالى كل من أعطى في حياة الخير والأمل، وعاش من أجل أن يكون أثراً يُذكر في إنسانية الخير والعطاء.
مازلنا على العهد لا تؤثر فينا المُغيّرات، ولا تؤثر فينا صغائر الأمور، بل في كل يوم نقوى لنقدّم الجديد والمزيد، وفي كل يوم نتعلّم الدرس الذي نمر به، حتى نتقدّم خطوات أكثر في محافل العطاء. لا نتحسر على أي موقف مر قررنا فيه أن نكون فيه أبطالاً نؤثر من أجل إثبات الوجود ولكن لم تتحقق فيه الأماني، لأننا باختصار أصبحنا أقوياء أكثر، ونهضنا لنكون قامات في الخير تُصفق لها الأجيال.
فكن شامخاً مُبتسماً مؤثراً، ولا تقبل أن تعود إلى الوراء، وتذكّر دائماً بأن الدنيا محطة عبور، وكن فيها معطاءً وصاحب أثر، حتى يُقال عنك «مرَّ من هناك وتَرَكَ أجمل الأثر».
ومضة أمل
اللهم ارزقنا من خيري الدنيا والآخرة، وارضَ عنا، واكتب لنا أجمل الأرزاق.