كتب - عبدالله الذوادي:بالرغم من كل الكوارث التي تعصف بالبحرين بين حين وآخر إلا أن شعبها الصبور المعطاء لا يلبث أن يتغلب على تلك الكوارث وتتحول دموعه إلى ابتسامات ورقصات تبدد حزن الكوارث لسبب واحد، هوعشقه للفن ومباهجه وقوة عزيمته وقدرته على القفز على كل الأحزان وسرعان ما يعود الصفاء إلى نفوس المواطنين بسبب، أولاً إيمانه بالله العلي العظيم وتمسكه بعقيدته الدينية، وثانياً قدرته على نسيان الكوارث وتخطيها إلى مرافئ الفرح والأمان.في الأربعينات والخمسينات وما قبل من السنوات التي عرفنا عنها من الأجيال التي عاشتها قبلنا عرفنا الكثير منهم عن الحياة الاجتماعية والفنية وقدرة الناس على التكيف مع حوادثها وتكيفها مع وجود المقاهي في أسواقها ودور الفن الشعبي في مدنها وقراها وافتتاح أول دار سينما بها متخطية كل دول الخليج في ذلك الوقت وصدور أول صحيفة عام 1939م أيضاً في دولة خليجية، وافتتاح أول مدرسة نظامية عام 1919م وإرسال أول بعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وافتتاح أول إذاعة في الأربعينات وكذلك كانت البحرين قبلة لكل عشاق التعليم والمعرفة والفن لأبناء الخليج الذين يقضون أوقاتاً جميلة وكذلك للعلاج والتداوي في أول مستشفى في البحرين مثل المستشفى الأمريكي الذي لايزال في موقعه الحالي في المنامة على شارع خلف العصفور وكذلك مستشفى الملكة فيكتوريا الواقع بفريق الذواودة جنوب بيت الباليوز الذي حل محل فريق الذوادي الذين انتقلوا بأمر من حاكم البحرين المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة طيب الله ثراه إلى حيهم الحالي جنوب رأس الرمان. هذه التطورات عاشتها البحرين، فعندما انهارت تجارة اللؤلؤ بسبب انتشار تجارة اللؤلؤ المزروع في اليابان لم يبخل المولى على البحرين فعوضها باكتشاف البترول وسوقته عام 1932 لتصبح أيضاً أول دولة خليجية في صناعة النفط، الذي غير وجه الحياة الاجتماعية في البحرين.المقاهي والاستماع للأغاني بالجرامافونفي المنامة كانت تنتشر المقاهي في شارع الشيخ عبدالله، كانت إحداها تقع في ملك الشيخ سطان بن عبدالرحمن آل خليفة رحمه الله الذي حولها فيما بعد إلى ما يقارب من عشرة دكاكين في بداية الخمسينات، كانت تلك المقاهي تفتح من الصباح الباكر حتى المساء و كانت كراسيها مغطاة بالسجاد العجمي الفاخر ومعلقة على جدرانها المرايا وبعضها بها صور ملونة للطواويس وتبث من خلال الجرامافون أحدث الأغاني المحلية لمحمد بن فارس وضاحي بن وليد ومحمد زويد وغيرهم من المطربين البحرينيين والأغاني المصرية لأشهر المطربين مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وإسمهان وعبدالمطلب وليلى مراد ومن المطربين العراقيين حضيري بوعزيز وزهور حسين وناظم الغزالي غيرهما و كان بعض الرواد يطلبون بعض الأغاني فتلبي طلباتهم و كان يشرف على وضع الأسطوانات شخص مخصص لهذه الوظيفة، كانت تلك المقاهى تغص بالزوار خاصة أيام الجمعة وفي الشتاء عندما تتوقف مهنة الغوص.إلى جانب المقاهي كانت توجد مقهى في شارع ولي العهد في السوق تقع في آخر الشارع من جهة الشمال ولكنها ليست في فخامة قهوة شارع الشيخ عبدالله، كان معظم روادها من الحمالين وتجار سوق الخضرة والشيالين يأتون لتناول فطورهم من النخي أو اللوبه أو الباجله والخبز مع الشاي بالحليب «الجربي» ، كما يسمونه والجربي هو القشدة التي تغطي وجه الكوب، وأشهر المشروبات نامليت بوتيله الذي يباع في معظم المقاهي والآيسكريم المحلي الصنع، وهناك العديد من المقاهي مثل قهوة الطواويش التي معظم زبائنها من تجار اللؤلؤ التي تجري فيها صفقات بيع اللؤلؤ وهناك المقاهي الصغيرة التي تزود الدكاكين في سوق المنامة بالشاي و القهوة طيلة اليوم حتى إقفال السوق ومن المقاهي أيضاً هناك قهوة عبدالله وقهوة جاسم صليبيخ في الحورة، وهناك أيضاً قهوة معرفي وقهوة السيد نصيبفي شارع الفاضل، وكذلك باعة القهوة المتجولين بدلالهم الذهبية وباعة شربت اللومي في دكاكين مختلفة.هذه الحركة المليئة بضجيجها تهدأ تماماً قبل أذان المغرب ليبدأ صمت الحياة ويبدأ النواطير القيام بواجبهم الحراسي والتأكد من أقفال الدكاكين ليتأكدوا من إقفالها وتنتقل تلك الحياة الصاخبة إلى شارع الزبارة وفريق الزراريع حيث قهوة بوضاحي في فريق الزراريع، كما توجد عدة مقاهي في السوق قريبة من سوق اللحم وسوق الخضار وسوق الصفافير والحدادة وسوق المقاصيص الذي تسمع صخب الدلالوة ومحلات بيع الأسطوانات لمختلف الأغاني مختلطة بأصوات طرق الحديد ورائحة الدخان المتصاعد من فحم الحجر الناتج من تنانير الحدادة، هكذا كان سوق المنامة من الصباح الباكر حتى قبل مغيب الشمس الذي تغيب فيه وتهجع تلك الأصوات وتبدأ أصوات النواطير «هوهي» لينام السوق بعد أن يأخذ كل فرد نصيبه مما قسم الله له، ويبدأ الصخب بفريق الزراريع والتسلل إلى الأزقة الضيقة للبحث عن المتع الرخيصة، وهنا أمتنع عن سرد سيناريو الليل في تلك المنطقة وما يحدث من صيد، لكنه ليس السمك في البحر، وأنتقل إلى شارع الزبارة الذي يبدأ من المقصب في الحورة حتى مقبرة المنامة حيث عالم الأموات يرحمهم الله جميعاً، حين تبدأ سمفونية الحمير من منطقة المقصب وأصوات الأبقار والأغنام والصراع لاستقبال الموت قبل طلوع الفجر، وصراخ القصابين، وكلما اتجهت غرباً ستجد أن تلك الأصوات بدأت تختفي لتستبدل بأصوات الأغاني الهندية من قهوة البلوش وصراخ «لاموه» ذلك المعاق جسدياً وعقلياً عاري الجسد كما ولدته أمه في حي الشراشنة، و كلما اتجهت غرباً تغيرت الأصوات حتى تصل إلى محيط سينما الوطني، فتدب حياة صاخبة جديدة بأغاني كبار المطربين في قهوة أحمد الفارة وإلى غربها التي يفصلها عن قهوة الفارة شارع قهوة أكبر وهي عبارة عن جبرة من الخشب و إنارتها بالإتريك الذي يعمل على «لاسبرتو» وتصدح فيها الأغاني وعلى الشارع الذي شرقيها محلات شواء اللحم الذي يقبل عليه جمهور غفير و باستطاعتك أن تتعشى بستة أسياخ لحم و كمية من البقل والبصل وقرص خبز محمش ومزين بالسمسم وبالعافية، وأشهر الباعة محل مختار، تقابل المقهيين سينما الوطني ثم النصر وأذكر أنه عرض عام 1949م فلم فتاة من فلسطين لسعاد محمد وكانت طفلة ومن أغاني الفلم أغنية « يا مجاهد في سبيل الله ... د اليوم اللي بنستناه».كما أنشئت سينما النصر من المناقير، وكانت السينما تعرض الأفلام الهندية المحببة للجمهور مثل أفلام بمبي واليه و سليم وهي أفلام مغامرات لفتاة شقراء ولا أعتقد أنها هندية وتعرض أيضاً أفلام محمد عبدالوهاب مثل فيلم يوم سعيد وفريد الأطرش مثل جمال ودلال ومقدرش وآخر كذبة وأشهر أغانيه ما قال لي وقلت له إلا أن أطول فيلم مكث عرضه لأشهر هو فيلم سَلاّمة لأم كلثوم حيث غنت فيه أغاني جميلة لكن كان أشهرها أغنية غني لي شويه شويه التي غنتها الفرق الشعبية في حفلات الزواج إلى درجة أن أحد العميان ظل يدخل السينما ليلياً طيلة عرض الفيلم لأشهر وكان الجمهور الذي يجلس على سور المقبرة ليستمع إلى أغاني أم كلثوم حتى انتهاء الفيلم أكثر ممن هم داخل صالة العرض مما اضطر الموتى إلى الخروج من قبورهم شاكين من هذا الجور الذي أزعجهم فاستجابت دائرة الأوقاف السنية فيما بعد إلى إزالة شواهد قبورهم وبنت عليها محلات قطع الأخشاب والنجارة وورش الحدادة وتقطيع الزجاج، ومن ثم رصفت باقي القبور بالطابوق الأحمر وجعلت مساحة كبيرة من المقبرة مواقف للسيارات. أما الفيلم الثاني الذي نال شهرة كبيرة واستمر عرضه شهوراً فهو فيلم أول نظرة بطولة صباح بنت 17 سنة وإحسان صادق في دور ملاكم وزوزو ماضي تمثل أم صباح في الفيلم وتعشق الاثنتين الأم والبنت بطل الفيلم، (حاله). وقد جن أحد رواد السينما بسبب الفيلم حيث أحب صباح وهو المرحوم عوض عبدالرحمن من أبناء الذواودة إلى درجة أنه ذات مرة أقدم على الانتحار في البحر، لكنه فشل، أما نحن الأطفال فكنا نذهب أيام الاثنين والخميس حيث تعرض الأفلام للنساء وبالرغم من أن قيمة التذكرة للأطفال في الدرجة الثالثة ست آنات إلا أننا لا نملك من 6 آنات ولا آنه فندخل رواق السينما ونتعلق بدفة إحدى النسوة ونقول لحارس مدخل السينما وكان اسمه سعدالله تقول له أمي أحياناً تمشي الحيلة أو يطنش وأحياناً يعطينا إسطار (راشدي) ونخرج باكين متألمين فنجلس بالقرب من بوابات الخروج لنسمع الأغاني وحوار الفيلم.السينما والمسرح وأصوات الباعةكان الشارع يضج بأصوات الباعة لمختلف بضائع التسالي والكباب والكعك والسجائر والعصائر والنامليت بوتيله حتى ساعات متأخرة من الليل.في الأربعينات وربما في عام 1946م افتتحت سينما اللؤلؤ قرب مستشفى النعيم لعائلة القصيبي، وكانت فخمة جداً كراسيها مخملية ومكيفة وعند العرض ترفع الستارة تلقائياً وكانت تعرض أفلام عربية وحديثة مثل عفريته هانم لفريد الأطرش وسامية جمال ورابحة وست الحسن بالألوان وأبو زيد الهلالي وفيلم الهاليبو لنعيمة عاكف الذي أعجب الجمهور وحضر إلى البحرين عدد من الممثلين أمثال نعيمة عاكف وحسن فايق ملك الكوميديا صاحب الضحكة المميزة وأذكر أنه زارنا في المدرسة الغربية و ذلك عام 1949، و فيما بعد توالى افتتاح عدد من دور السينما مثل سينما الأهلي التي امتازت بعرض الأفلام العربية مثل الفيلم العراقي عليا وعصام وخاتم سليمان لليلى مراد وزكي رستم وأشهر الأفلام كان فيلم عنتر وعبله الذي استمر عرضه شهوراً وأعيد عرضه أكثر من عشر مرات وكان جمهور الأخوة العمانيين هم الأغلبية لمشاهدة الفيلم الذين يشكلون أكبر كتلة عمالية في البحرين وقت ذاك وانسجموا مع إخوانهم البحرينيين الذين أحبوهم لأنهم كانوا مسالمين وبعضهم تزوج في البحرين، ثم افتتحت سينما أوال وأهم الأفلام التي عرضت كان فيلم ظهور الإسلام للأديب المصري الدكتور طه حسين، وكان الظهور الأول للممثل المرحوم أحمد مظهر الذي مثل دور أبوجهل، ثم افتتحت سينما البحرين وكانت تقع مكان فندق الشرق الأوسط على شارع الزبارة وأشهر الأفلام كان فيلم جميلة بوحريد ومثلت دورها ماجدة إلى جانب أحمد مظهر ورشدي أباظه واستمر عرضه مدة طويلة ثم بنيت سينما الزبارة، وفي المحرق، ويعذرني أخوتي أبناء المحرق لعدم إلمامي بتاريخ مدينتهم والتي لا تقل شأناً عن المنامة في عدد المقاهي والدور الشعبية ويكفيها شرفاً أن أول مدرسة للتعليم النظامي بنيت على أرضهم وهي مدرسة الهداية الخليفية وعبدالله الزايد صاحب أول جريدة في الخليج وهو محرقي وكانت عاصمة الغوص واللؤلو. ثم بنيت سينما الأندلس بمدينة عيسى مع المشروع الإسكاني الضخم مشروع مدينة عيسى، وهناك سينما العوالي واحدة داخل عوالي وأخرى خارج سورها في سكان العمال الهنود من موظفي بابكو.هناك أيضاً نشاط مسرحي وأهم العروض المسرحية كانت مسرحية عبدالرحمن الناصر التي أقيمت في بيت حسن القصيبي عند جامع الفاضل وأهم ممثليها المرحوم محمود المردي وعلي لوري، وأبدع الفنان التشكيلي يوسف قاسم حين صمم قاعة القصر الكبرى، كما كان في البحرين أندية كثيرة تمارس الرياضة والأنشطة الثقافية. كانت البحرين قبلة أبناء الخليج لحضور هذه الفعاليات الثقافية والفنية التي تقيمها الأندية وما تعرضه دور السينما من أفلام ووجود المقاهي التي تعمل ليل نهار ووجود المشافي ووجود البساتين التي تقام فيها الرحلات والسباحة في بركها.وكان لشعب البحرين المضياف أكبر الأثر في حضور أبناء الخليج إلى البحرين إما للدراسة أو العلاج أو السياحة أو التجارة وحتى المصاهرة، وقد اكتسب البحرينيون خبرة كبيرة في مجال التجارة والصناعة النفطية والإنشائية مما أوجد لهم مجالات العمل في معظم دول الخليج وخاصة في المملكة العربية السعودية في مد خط التابلاين الذي ينقل البترول من المنطقة الشرقية إلى سواحل لبنان على البحر الأبيض المتوسط في الأربعينات والخمسينات كما أتم مواطنو الدول الخليجية تعليمهم في البحرين وأصبحوا من كبار المسؤولين في بلدانهم.هكذا كانت البحرين منارة الفن والإبداع في خليجنا العربي، وقبلة لإخواننا الخليجيين لمختلف أنواع الثقافة والعمل والدراسة والتجارة والسياحة، وستبقى البحرين إن شاء الله واحة أمن وأمان بفضل حكامها وشعبها الحبيب الذي نرجو من الله أن يزيل هذه الغمة عن ديار أهل البحرين ويعيد إليها الصفاء والوئام إلى كافة أبنائها إنه سميع مجيب.
البحرين منارة الخليج في الفن والثقافة وشعبها يتغلب على الكوارث
19 أكتوبر 2012