قبل أيام، تجاذبت أطراف الحديث مع أحد الزملاء الشباب، وهو في منتصف الثلاثينات، فسألته عن طموحاته ومشاريعه المستقبلية. باغتني برده المفاجئ قائلاً: «خطط ومشاريع شنو.. أنا الحين أحاتي كيف أطلع تقاعد بمعاش زين وأستانس بحياتي». في تلك اللحظة، عادت بي الذاكرة إلى حوار آخر دار قبل سنوات مع زميلٍ يكبره بعشرين عاماً، كان قد بلغ السادسة والخمسين، وحين طرحت عليه السؤال ذاته، أجابني بحماسٍ وكأن الحياة تبدأ لتوها: «أنا الآن أخطط لبدء مشروعي الشخصي، وسأفرغ له كل وقتي وجهدي. حلمي أن يكون الأفضل ليس فقط في البحرين، بل في الخليج كله».

في هذين المشهدين، انعكاس واضح لفرق شاسع بين الأجيال، أحدهما يرى في الحياة فرصة لا تنتهي مهما تقدم به العمر، والآخر بالكاد يخطو في منتصف الطريق، لكنه يتوق إلى محطة الاستراحة النهائية، حتى قبل أن يختبر طعم السعي والتحدي.

حين ننظر إلى آبائنا وأجدادنا، نجد أن العمل بالنسبة لهم لم يكن مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل كان جزءاً من هويتهم ووجودهم. كانوا يغوصون في أعماق البحر بحثاً عن اللؤلؤ، يتحدون أمواجه دون يقين بما قد يعودون به، لكن ذلك لم يثنهم عن العودة مرة بعد أخرى.

كانوا يصنعون بأيديهم من الخشب سفناً، ومن الطين بيوتاً، ومن الجهد كرامة. لم يسألوا متى يتقاعدون، بل كانوا يعملون حتى آخر يوم في حياتهم، لأنهم آمنوا أن الإنسان بلا عمل، بلا قيمة.

أما اليوم، فقد غيرت الراحة أولويات كثير من شبابنا، فلم يعد الحلم مشروعاً طويل الأمد، بل بات مؤجلاً إلى حين التقاعد، وكأن الحياة الحقيقية تبدأ بعد أن تنتهي سنوات العطاء. أصبح كثيرون يبحثون عن أقصر الطرق لتحقيق الرفاهية، ولو كان ذلك على حساب الطموح والسعي.

ليس المطلوب أن يكون الجميع حرفيين أو بنائين أو تجاراً مغامرين، لكن أن نعيش بلا حلم وبلا رغبة في الإنجاز هو ما يجعل الحياة تفقد بريقها، لأن العمر لم يكن يوماً عائقاً أمام النجاح، فكم من شخص بدأ مشروعه في الخمسين أو حتى الستين، ونجح حيث فشل كثيرون ممن امتلكوا الشباب والطاقة لكن افتقدوا الإصرار.

إن الركض خلف الأحلام والطموحات والإنجاز ليس رفاهية؛ بل هي ضرورة تحافظ على وهج الحياة في أعيننا، فلا يهم كم مضى من العمر، لأن الأهم هو ما سنصنعه بما تبقى منه، فالذين يستعجلون الراحة اليوم قد يكتشفون بعد سنوات أن الاستراحة الحقيقية لم تكن في الهروب من العمل بل في متعة الإنجاز ذاته.