"ولا على المريض حرج” تتحدث الآية عن رفع الحرج والمسؤولية عن شخص ما في حال ارتكب خطأً أو جرماً بسبب مرضه، وهي قاعدة إنسانية شرعية تراعي ضعف الإنسان وعجزه. ولكن، ماذا عن المريض النفسي الذي يرفض الاعتراف بمرضه ويعيش يومه بصورة طبيعية في الظاهر، بينما يحمل في داخله ناراً قد تحرقه وتحرق مَن حوله؟

المرض النفسي لا يقل خطورة عن الأمراض الجسدية، بل إن بعضه يفتك بصاحبه بصمت كما يفعل السرطان. فكما ينخر السرطان جسد المريض بهدوء حتى تظهر علاماته فجأة، هناك أمراض نفسية تنخر في سلوك المريض ووعيه، دون أن تُرى بالعين المجردة، لكنها تُشعر بها الأرواح المنهكة من حوله. الفارق الوحيد أن السرطان يُؤدي بصاحبه غالباً، أما المرض النفسي غير المعالَج، فقد يؤدي بصاحبه وبمن حوله.

المريض النفسي غير الواعي بمرضه، ولا الخاضع للعلاج السلوكي أو الدوائي، قد يتحول إلى مصدر دائم للقلق والخوف والضغط النفسي لأسرته وجيرانه، وكل من يتعامل معه. فهو يرى نفسه دائماً على حق، والآخرين هم المخطؤون. وقد تتكرر منه التصرفات المؤذية، ويُحال إلى الجهات المعنية في قضايا مثل الاعتداء أو الإزعاج، ثم يُعاد إيداعه في مستشفى الطب النفسي، ليخرج بعدها ويعود للسلوك نفسه.. إلى أن تقع الكارثة.

وهذا ما حدث في جريمة "الشاخورة” التي هزت المجتمع. ففي جلسة الشهود التي عُقدت مؤخراً، قال شقيق الجاني أمام المحكمة: «أخي يعاني نفسياً، وتم إيداعه في الطب النفسي قبل 25 عاماً». فهل يُعقل أن يعيش بين الناس كل هذا الوقت دون رعاية مستمرة أو رقابة علاجية صارمة؟ وهل يكفي أن نقول بعد كل جريمة: "كان مريضاً نفسياً”؟

الحقيقة أن هذه الفئة من المرضى بحاجة إلى احتواء مختلف، لا يستطيع الأهل وحدهم تقديمه، ولا تكفي جلسة علاجية متقطعة لتغييره. المشكلة لا تتعلق بالأهل فقط، بل بالمجتمع الذي لا يزال - وإن بنسبة قليلة - لا يُدرك أن المرض النفسي يحتاج إلى علاج طويل الأمد، وإلى خطة شاملة، وربما إلى مؤسسة متخصصة غير تقليدية تتجاوز المفهوم العلاجي الحالي القائم على الطب النفسي وحده.

نحن بحاجة إلى مؤسسة مستقلة تُعنى بتقييم حالات المرضى النفسيين الخطرين على أنفسهم، أو على غيرهم، وتتابعهم سلوكياً ونفسياً واجتماعياً، وتعمل على التدخل المبكر بناءً على البلاغات والسلوكيات المريبة، وتضع برامج تأهيلية، وتحدد فترات الإقامة اللازمة للعلاج، مع مراقبة دقيقة بعد الخروج، بالتعاون مع الجهات القضائية والاجتماعية.

إن ترك مثل هذه الحالات دون معالجة جذرية ليس فقط ظلماً للمريض، بل خطراً على المجتمع بأسره. وللأسف، ليست جريمة الشاخورة الأولى، فقد سُجلت جرائم سابقة ارتُكبت على يد مرضى نفسيين، وانتهت جميعها بإيداع المجرم في الطب النفسي بأمر قضائي.. ثم ماذا؟ ثم تُعاد الكرَّة.

إنها دعوة للمسؤولين، وللمجتمع، بأن يدركوا أن الوقاية خير من انتظار جريمة جديدة.