في مملكة البحرين، حيث كانت الأرض لعقود تُنازع شحّ المياه وتحديات العمران، تبزغ اليوم من بين تضاريسها الخضراء قصة تنموية مشرفة، تُروى من جذور النخيل، ووجوه الفلاحين المتعبة المُضيئة بالعزيمة، لم تعد الزراعة ترفاً ريفياً، بل تحوّلت إلى مشروع وطني استراتيجي يحمل توقيع قيادة تؤمن بأن الأمن الغذائي لا يُستورد، بل يُزرع، ويُروى، ويُصان.
لقد أدركت القيادة الرشيدة، وعلى رأسها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، المعظم، أن الزراعة ليست فقط قطاعاً إنتاجياً، بل هي روح الاكتفاء ودرع السيادة، ومن هذا الإيمان، أطلقت مبادرات استراتيجية، أبرزها «جائزة الملك حمد للتنمية الزراعية»، التي لم تكن يوماً جائزة رمزية، بل محرّكاً فعلياً للقطاع الزراعي، غيّرت وجه الزراعة البحرينية، ورفعت معاييرها إلى مستويات عالمية.
أبرز ما يمكن رصده في النسخة الخامسة للجائزة، هو التحوّل الجذري في عقلية المزارع البحريني. لم يعد مزارعاً تقليدياً ينتظر المواسم، بل باحثاً زراعياً، تقنياً، مبتكراً، يُجري التجارب على البذور، ويدرس السوق، ويزرع ما يحتاجه المستهلك البحريني، لا ما اعتاده المزارع القديم.فالمزارع علي عاشور، أحد الفائزين بالجائزة، يزرع ما يزيد عن 45 صنفاً زراعياً، منها عشرة أنواع من الطماطم وحدها، أما ميرزا حسن، فقد ضاعف إنتاجه عشر مرات خلال عقد، ووصل بإنتاج الطماطم المحلية إلى تغطية 80% من السوق خلال مواسم الذروة، هذه النسب ليست أرقاماً صامتة، بل مؤشرات وطنية تعني أن البحرين باتت قادرة، بشكل ملموس، على تأمين غذائها بيد أبنائها.
المبادرات الحكومية لم تقتصر على الجائزة فحسب، بل شملت تطوير البنية التحتية الزراعية من خلال التوسع في المحميات الزراعية، التي ارتفعت من 10 إلى أكثر من 60 محمية خلال سنوات قليلة، كما شجّعت الدولة على استخدام الزراعة العمودية، وتقنيات الري الحديثة، ما أدّى إلى زيادة الإنتاج بنسبة تتراوح بين 30% و40%، بحسب ما أفاد به المزارعون أنفسهم.
لكن الزراعة ليست إنتاجاً فقط، بل علماً، وهنا، برز دور البحث العلمي البحريني ممثلاً في الدكتور ماجد أحمد، الذي فاز بجائزة أفضل بحث زراعي، حول جدولة الري الناقص وتأثيره على أشجار النخيل، دراسته خلصت إلى إمكانيّة توفير 40% من المياه باستخدام نظام ري تحت السطحي، دون التأثير السلبي على الإنتاج، هذه الدراسة، إن طُبّقت، قد تغيّر قواعد الري في المناطق الجافة، وتفتح باباً لتعاون إقليمي في مواجهة أزمة المياه.
الملفت في التجربة البحرينية، أن كل هذا الجهد الزراعي لم يكن بمنأى عن القيم البيئية، فالمملكة، التي تخوض معركة استدامة في ظل التحديات المناخية، وضعت في استراتيجيتها الزراعية التزاماً بالحفاظ على البيئة الزراعية، وتعزيز التوازن بين الإنتاج المحلي والمستورد، هذه المقاربة الواعية، تضمن جودة المنتج الوطني من جهة، وتمنع التصادم مع واقع السوق العالمي من جهة أخرى.
ليس هناك أصدق من الأرض حين تتكلم، وما قالته الأرض البحرينية في السنوات الأخيرة، هو:«إن الإرادة السياسية حين تتلاقى مع عزيمة المواطن، تثمر خضاراً وفواكه وكرامة وطنية»، ما يُزرع اليوم في سترة وكرزكان والدراز والهملة، ليس خياراً أو خساً أو طماطم فقط، بل هو سيادة وطنية مغروسة في التراب، ومشروع استدامة يبدأ من اليد البحرينية ويعود إليها، وإننا حين نُلقي نظرة على الأرقام والمؤشرات، نجد أن مملكة البحرين قد خطت بخُطى واثقة نحو الاكتفاء الغذائي الجزئي، حيث بات الإنتاج المحلي يغطي ما بين 60% إلى 80% من بعض المحاصيل الموسمية الأساسية، كما أن نسبة الاكتفاء من الخضروات بلغت أكثر من 45%، وهي أرقام واعدة في بيئة من الأكثر تحدياً مناخياً في الخليج.
وفي ظل هذه الإنجازات، تبقى جائزة جلالة الملك رمزاً لتحفيز العقول قبل الأيدي، فكل فلاح يقف على أرضه اليوم، يُدرك أنه لا يزرع فقط للغد، بل يُسطّر فصلاً من قصة أمن وطني، عنوانه: «نأكل مما نزرع، ونزرع من أجل البقاء».
في الزراعة كما في السياسة، البذور الصالحة لا تثمر إلا إذا غُرست في أرضٍ آمنت بها. والبحرين، أرضٌ آمنت بمزارعها، فآمن بها.
إعلامية وباحثة أكاديمية