بينما كنت أتجوّل في أروقة معرض الدوحة الدولي للكتاب، شدّني جناح الدار العربية للموسوعات، توقّفت قليلاً أتصفح بعض العناوين، حتى قالت لي السيدة بان خالد العاني، مديرة الدار: "أنت من البحرين؟ إذاً لابد أنك تعرف نبيل أجور!"، ولم تكد تنهي جملتها حتى أخرجت من رفوفها عدة كتب باسمه، مؤكدة أنه أحد المؤلفين البحرينيين الذين تلقى كتبهم رواجاً في الدار اللندنية، ابتسمتُ، لا من الدهشة، إنما بسبب أن هذا الاسم يطرق بابي كلما تبادلت أحاديثَ سريعة مع مختلف أنواع الناس والجنسيات.

ذلك الاسم الذي قد يظنه البعض تكراراً في سوق الأقمشة، هو في الحقيقة نسيجٌ من ذاكرة المنامة، وصوتٌ لم يغادر دكانه، وموقفٌ لم يتأرجح بين المكسب والرحيل، نبيل عبدالرحمن أجور، الذي يظنه البعض أنه مجرد تاجر ورث محلاً في سوق الطواويش، ولكنهم لا يعلمون أنه من القلائل الذين رفضوا هجر السوق القديمة، وتأجير محلاتهم، ولم يستسلموا لمغريات التحوّل، أو ترك السوق للغرباء، بل ظل، ومازال، يسقي الزرانيق القديمة بذاكرةٍ حية، ويمسح الغبار عن تفاصيل المنامة بحديثٍ لا يملّ، كلما جلس في دكانه أو كتب سطراً في أوراقه، أو أنزل منشوراً في حسابه على شبكات التواصل الاجتماعي.

في صباحات السبت، هناك سبتية "نبيل أجور" اسمها يوحي بأنها جلسة عائلية فقط، ولكنها في الحقيقة عبارة عن ملتقى دبلوماسي غير رسمي، يتقاطر السفراء وبعض كبار الزوار لتناول الإفطار البحريني في دكانه المتواضع، حيث يختلط البلاليط بالسياسة، والشاي بالدبلوماسية والعلاقات الدولية، والقماش يشهد على ذلك ويدون في الذاكرة.

هناك، لا مكان للمجاملات الرسمية، حكايات تبدأ من مذاق المنامة، وتنتهي بمستقبل السوق، وبعضها لا يمر إلا على دلال قهوة يسرد نُكات البحرينيين وكأنهم في مجلسهم الأول، هي سبتية تُشبه صاحبها: أصيلة، بسيطة، وعميقة، تنبض بحب المنامة.

ورث نبيل التجارة عن جده محمد، وعن أبيه من بعده عبدالرحمن، وعمّه علي، ثم عمل في المحل جنباً إلى جنب مع إخوته منذ أيام الطفولة، المدارس لم تعلمه وحدها، فالتعليم المدرسي له حدود، ولكنه تعلم في فواتير الموردين، ودفاتر الحساب، وفي سوق لا يميّز بين ابن التاجر والعامل.

وفي لحظة مفصلية من طفولته، اختار البقاء في البحرين لدراسة علم النفس بدلاً من الاغتراب، وتفوّق حتى كان أول من تخرّج بشهادة بكالوريوس في هذا التخصص من جامعة البحرين، لكنه، حين خيّره والده بين إكمال الماجستير في بريطانيا أو العودة للمحل، اختار الطريق الذي يفوح برائحة "الخلق" وأصوات مقص "الخياييط"، وصباحات أهل السوق التي تبدأ بالسلام وتنتهي بالدعاء عشيتها.

ما يميّز نبيل أجور عن غيره من تجار السوق، ليس حفاظه على تجارة عائلته وتراثها في الأقمشة فحسب، إنما يميّزه إصراره على التوثيق، فهو من القلائل الذين يدركون أن السوق ليست فقط مكاناً للبيع، وللعرض والطلب، وزحام المواسم، فهو يدرك أن السوق أبعد من ذلك، السوق هو ذاكرة حية، تشهد التحولات، وهو المكان الذي كان شريان الحياة فيما مضى.

ولذلك تراه اليوم يكتب، ويوثق، ويُعدّ كتاباً بعنوان "ذاكرة بن أجور"، يسرد فيه تفاصيل الخليج وأسواقه ومفرداته، تماماً كما كانت تُروى على سلال القماش في طفولته، وحين أخبرتني الأستاذة بان العاني أن كتبه تلاقي رواجاً في دارها اللندنية، وتحدثت عن لطفه وسيرته العطرة، أيقنت أن الصوت الذي انطلق من سكة الطواويش وصل أبعد مما يظن من لا يعرف نبيل.

هذا الرجل، الذي جمع في محله بين الضيافة والدبلوماسية، وبين التجارة والكتابة، وبين الأصالة والانفتاح، تميّز عن غيره وأصبح يسير في محاولات لرد جميل هذا السوق عليه، وحين تسأله عن فلسفته، قد يجيبك بآية خطّها والده على علبة فضيّة: "ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب"، فهو يؤمن أن القيم التي تُزرع في السوق، لا تذبل كما تذبل القمصان، فهي تبقى رائحة في المكان، وصدى في النفوس.

فمنذ أن بدأ جده محمد أجور هذه الحكاية في عام 1932، مرّت ثلاث وتسعون سنة، لم تُغلق فيها الأبواب على غبار، ولم تُعلّق فيها المفاتيح على جدران النسيان، ثلاث وتسعون سنة، تغيّرت فيها وجوه السوق، ارتفعت المجمعات، وهاجر التجار، وتحوّلت الدكاكين إلى واجهات أجنبية، إلا هو وقليلون آخرون... بقي.

بقي صوته في السوق، بقي لأن الحكاية ليست تجارة فقط، ففي قاموسه هي عهدٌ لا يُقطع، وذاكرة لا تُؤجَّر، وأرض لا تُغادر.

في دكان نبيل أجور، تُباع الأقمشة، وتُروى سيرة وطن... على لسان رجلٍ لم يغادر الدكان، وأنت أيها القارئ قد لا تقرأ سيرته في كتب المناهج، لكن السوق تحفظها، والمكان يشهد، فهناك رجال، لا يغادرون الدكان، لأنهم لا يبيعون القماش فقط... إنما يخيطون بالذاكرة قطعة من الوطن.