توفيق السباعي


من العاصمة الماليزية كوالالمبور، وبحضور أصحاب الجلالة والسمو والفخامة قادة الوفود المشاركة؛ ألقى صاحب السموّ الملكيّ الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه اللّه، كلمتين بارزتين خلال مشاركته نيابةً عن حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم حفظه اللّه ورعاه، في القمّتين الاستراتيجيّتين: القمّة الثانية بين مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، والقمّة الافتتاحيّة بين مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) وجمهوريّة الصين الشعبيّة. وقد حملت الكلمتان رسائل بعيدة المدى، عكست من خلالها مملكة البحرين مواقفها الثابتة، ورؤيتها العالميّة المتّزنة، ودورها الفاعل في بناء نظام دوليّ أكثر تعاوناً واستقراراً.

جاءت كلمات سموّه متّسقة في بنيتها ومضمونها، حيث انطلقت من ركيزتين أساسيّتين: التأكيد على الشراكات متعدّدة الأطراف، والدعوة إلى استثمار التحدّيات العالميّة كفرص للابتكار والتكامل. ففي كلمته أمام قمّة الآسيان، أعاد سموّه التأكيد على الدور التأسيسيّ الّذي لعبته البحرين منذ انطلاق الحوار الخليجيّ الآسيويّ قبل خمسة عشر عاماً، حيث احتضنت المملكة أوّل اجتماع وزاريّ، في دلالة رمزيّة عميقة على التزامها التاريخيّ بدعم الجسور الاستراتيجيّة بين المنطقتين.

وقد أكّدت الكلمة على فهم عميق للتحدّيات الدوليّة المعاصرة، من تغيّر المناخ إلى الأزمات الاقتصاديّة والجيوسياسيّة، مشدّدة على أهمّيّة التعاون، والابتكار، والاعتماد على رأس المال البشريّ والتعليم والبحث العلميّ كمدخلات أساسيّة لتحقيق استقرار طويل الأمد. وهنا تظهر مملكة البحرين كفاعل مؤسسيّ يدعو إلى تمكين الشعوب، وتعزيز الروابط الثقافيّة والإنسانيّة، بوصفها عوامل محوريّة في بناء شراكة مرنة ومستمرّة.

كما أنّ دعوة سموّ وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء المجتمع الدوليّ إلى الاستجابة لمبادرة جلالة الملك المعظم أيّده اللّه، بشأن عقد مؤتمر دوليّ للسلام في الشرق الأوسط، هي تأكيد متكرّر على النهج الدبلوماسيّ الحكيم لمملكة البحرين في ترسيخ قيم السلام والحوار والتعايش كوسيلة لحلّ الأزمات، لاسيّما في ظلّ التوتّرات المتصاعدة إقليميّاً.

وفي القمّة الخليجيّة-الآسيان-الصينيّة، تتعمّق هذه الرؤية لتأخذ أبعاداً أكثر شموليّة. إذ جاء خطاب سموّه ليؤكّد على إدراك البحرين لأهمّيّة التوازنات الدوليّة وتحوّلات مراكز القوّة، وعلى رأسها الصعود الآسيويّ، ممثّلاً في الصين ورابطة الآسيان. وقد أبرزت الكلمة قدرة مملكة البحرين على استثمار هذه التحوّلات لصالح شراكات أكثر استدامة، حيث دعا سموّه إلى تعزيز التعاون في مجالات الطاقة المتجدّدة، التحوّل الرقميّ، والتنمية المستدامة.

واللافت أنّ سموّه لم يكتفِ بالإشادة بالفرص، بل أظهر وعياً نقديّاً بالتحدّيات المصاحبة للابتكار، لاسيّما في مجال الذكاء الاصطناعيّ، إذ جدّد دعوة مملكة البحرين لإبرام معاهدة دوليّة لتنظيمه أخلاقيّاً. وهي دعوة تنسجم مع سياسة بحرينيّة عميقة تقوم على المواءمة بين التقدّم التكنولوجيّ والقيم الإنسانيّة، وهو ما يميّز البحرين كلاعب إقليميّ يعلي من شأن القيم في خضمّ التحوّلات الرقميّة العالميّة.كما جاءت إشارات سموّه إلى دعم البحرين للحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ وإعادة إعمار غزّة؛ لتؤكّد أنّ السياسة الخارجيّة البحرينيّة توازن دائمًا بين البعد الاستراتيجيّ والبعد الأخلاقيّ، وهو ما يعكس التزام المملكة الثابت بدعم القضايا العربيّة، والدعوة إلى حلول دائمة قائمة على العدالة والكرامة.

رسائل سموّ وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله لم تكن فقط خطاباً سياسيّاً متّزناً، بل رؤية استراتيجيّة تؤسّس لنمط جديد لمرحلة ما بعد التحالفات التقليديّة، فالشراكة الخليجية مع دول الآسيان والصين أصبحت ضرورة تنمويّة واستراتيجيّة. وتأتي مملكة البحرين في قلب هذا التحوّل، حاملة قيمها ومبادئها، حاضرة برؤيتها، شريكة بصوتها، وصانعة لفصول جديدة في التعاون الدوليّ.