في كوالالمبور، حيث التقت الجغرافيا بالاستراتيجية، والاقتصاد بالسياسة، انعقدت القمة الثلاثية التاريخية بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ورابطة «الآسيان»، وجمهورية الصين الشعبية، قمةٌ لم تكن وليدة لحظة، بل انعكاساً لتبدل موازين العالم، ورغبة جماعية في صياغة نظام دولي أكثر عدلاً، وتوازناً، وشمولاً.
بالنيابة عن حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، شارك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، مجسداً دور البحرين الريادي في زمن يتطلب صوت الحكمة والمبادرة لا الانكفاء، ومرونة الانفتاح لا جمود الاصطفاف، من على منبر القمة، لم يُقدم سموه خطاباً تقليدياً، بل رؤية متكاملة تتجاوز الجغرافيا نحو القيم الإنسانية المشتركة، وتضع الإنسان في صميم المعادلة.
لقد دعا سموه إلى شراكة تنموية مستدامة تجمع الخليج والآسيان والصين، بما تمثله هذه القوى من ثقل سكاني يتجاوز 2.3 مليار نسمة، واقتصاد يُشكل خُمس الناتج العالمي، لكنها ليست شراكة أرقام جامدة، بل رؤية حية تمس جوهر الحياة: الأمن الغذائي، الطاقة النظيفة، التحول الرقمي، التنمية البشرية، والسياحة الواعية.
وما بين الخطاب والتنفيذ، ترجمت البحرين هذه الرؤية بتوقيع مذكرة تفاهم مع ماليزيا في إدارة الموارد البشرية، في خطوة تعزز التحول نحو «الدولة الذكية»، وتُرسخ كفاءة الحوكمة الإدارية، بما يتماشى مع متطلبات العصر، كما شكّل قرار الصين إلغاء التأشيرات لمواطني دول الخليج تأكيداً على انتقال العلاقات من المجاملات الدبلوماسية إلى جسور الثقة المتبادلة.
ولأن التحولات لا تقف عند الاقتصاد، جدد صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء دعوته لصياغة معاهدة دولية لضبط مسار الذكاء الاصطناعي، انطلاقاً من رؤية أخلاقية تحمي الكرامة الإنسانية، وتمنع انزلاق التكنولوجيا إلى دهاليز الهيمنة الرقمية، البحرين، هنا، لا تسعى فقط للحاق بركب التقنية، بل تسعى لتقنين ضوابطها، وترسيخ موقعها كمنصة رائدة لأخلاقيات الابتكار.
وفي بُعدٍ إصلاحي أعمق، جاءت دعوة سموه لإعادة هيكلة المنظومة الدولية، لا سيما المؤسسات المالية، لتكون أكثر عدالة وتمثيلاً، مؤكّداً أن النظام العالمي لم يعد حكراً على الأقطاب التقليدية، بل بات يستدعي صوت الجنوب العالمي، بروحه التعاونية لا التصادمية.
لم تكن كوالالمبور مجرّد قمة، بل نداءً للعبور من مرحلة القطبية إلى فضاء التعددية العاقلة، ووسط هذا المشهد، حملت البحرين مشروعاً حضارياً يُعلي من شأن التنمية لا الهيمنة، ويؤمن بأن الحوار يولد في مناخات الثقة لا تحت ظلال التهديد.
إنه صوت بحريني خافت في نبرته، قوي في منطقه، عميق في رؤيته: حيث التحالف لا يعني التبعية، والانفتاح لا يُقايض السيادة، والنمو لا يُشترى على حساب القيم. وهكذا، تتوسط البحرين خارطة تحالف ثلاثي صاعد نحو المستقبل، حيث الخليج والآسيان والصين، يضعون معاً حجر الأساس لتحالف عادل، إنساني، ومبني على التنمية لا النزاع.* إعلامية وباحثة أكاديمية