اسم عمل فني جديد أعلن عنه سمو الشيخ ناصر بن حمد عبر نشره صورة لإعلان لفيلم سينمائي، وعلق «جهد الشيخ عيسى بن علي راح يخلد» أي يوثق لفترة حكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وهي فترة تمتد إلى حوالي 63 عاماً.
تاريخ حكم آل خليفة للبحرين عبارة عن ملحمة بمعنى الكلمة منذ تأسيسه إلى اليوم، هذا القول توصيف مجرد كتقييم بلا أي مجاملة، وذلك بقياس الفترة الزمنية التي امتدت لأكثر من قرنين وبقياس التحديات الكبيرة التي واجهته ومازالت، والأهم بقياس ما أثمرت عنه تلك الجهود من مملكة حديثة تواكب آخر التطورات في جميع مجالات التنمية.
في كتابنا «البحرين قصة الصراع السياسي 1904-1956» استعرضنا الكثير من تلك التحديات، وأخص بالذكر هنا فترة حكم الشيخ عيسى بن علي موضوع المقال والفيلم، إذ استوقفتني كثيراً عدة مواقف للشيخ مرت عليها العديد من مصادر ومراجع وكتب ووثائق بريطانية مروراً حمل توصيفات كاتبها لتلك المواقف من منطلق مصلحته، إنما حين تنظر لها من خارج ذلك المنظور، فإنك مجبر على أن تضعها في خانة أخرى تماماً.
واحدة من تلك المواقف كيف دونت الوثائق البريطانية مواقف الشيخ عيسى بن علي الرافضة تماماً بإصرار، والمقاومة لتدخلاتهم في الشؤون المحلية، ووصفته «بالعناد» بعد أن وصفت تدخلاتها «بالنصائح»، وهناك مراسلات كثيرة حول هذا الموضوع حفلت بتوصيفات لموقف الشيخ بأنه «حاكم غير متعاون» وذلك على مدى سنوات طويلة من المحاولات البريطانية للتدخل وفرض قرارات تخص القضاء، وتخص نظام تحصيل الضرائب وبل وصل الأمر إلى حد إغرائه بالمال، لكنه رفض رفضاً تاماً.
حتى كتب جي لوريمر في كتابه الشهير «دليل الخليج» في القسم الثالث التاريخي عبارة «لديه إحساسه العالي بالكرامة» توصيفاً لموقف الشيخ من التدخلات الأجنبية.
هذه المواقف تصنف الآن تحت باب «السيادة الوطنية» إذ لم يكن الرفض لمجرد الرفض فقط، بل هو تأسيس لاستقلالية وسيادة البحرين ونهج اتبع منذ أيام التأسيس الأولى للدولة المدنية حيث قال في ذلك الشيخ «عبدالله بن أحمد الخليفة «إن البحرين ملك، ورثناه عن أجدادنا، وليس بيننا شروط لأن نكون رعية للإنجليز، ولم أظهر أي سبب لذلك غير الصداقة، وليس للإنجليز أن يتعدوا علينا، فإن كنتم تشرعون في حرب القوة والاقتدار سنبذل كل ما في وسعنا في سبيل ملكنا وأهلنا وعيالنا وديننا وليحصل بعد ذلك ما يحصل 1835».
المصدر «تاريخ البحرين السياسي لفائق طهبوب ص 201 «وثائق عابدين»».هذا هو نهج الحكم الخليفي الذي ورثه الشيخ عيسى بن علي وبه تمسك حفاظاً على سيادة دولته وكرامتها، ولا يوصف كما سمته الوثائق البريطانية «عناد» و«عدم تعاون» خاصة إذا علمنا أن «النصائح» البريطانية كانت لأسباب تتعلق بمصالح بريطانية صرفه بسبب رغبتهم في تحويل البحرين إلى مركز قيادي بريطاني في المنطقة بدلاً من بوشهر.
أما المواقف الثانية التي ينظر لها بمنظور مختلف عن توصيفات كاتبها، ونقصد هنا الوثائق البريطانية تحديداً هو موقف الشيخ من حماية مصالح شعبه وتحفيزه للمشاركة الشعبية ليتحصن الجميع حكماً وشعباً ضد التدخلات الأجنبية، وهو السبب الذي من أجله وسع المشاركة الشعبية بشكل غير مسبوق في المنطقة برمتها منذ بداية حكمه، فأسس المجلس البلدي عام 1919 والمجلس العرفي ومجلس المعارف 1918 والأدبي 1920 مؤسسات مدنية لإدارة الشؤون العامة أشرك فيها أهل البحرين تعييناً وانتخاباً كما حصل في المجلس البلدي، وفي جميع تلك المجالس لم تتوقف محاولات الوكيل البريطاني لعرقلة عملهم، سواء كان ديكسون أو ديلي أو بيري.
وحفلت الوثائق البريطانية بتوصيفات مماثلة للشيخ تصفه بالعناد وعدم التعاون للنصائح البريطانية في إدارة تلك المجالس، وبررت تدخلاتها بوجود الوكيل في اجتماعات المجالس المحلية بالرغبة في مساعدة الأعضاء إذ «قد يحتاجون إلى أوراق أو أقلام»!!
كل تلك التضييقات على الشيخ جاءت لثنيه عن موقفه البطولي في المقاومة الوطنية التي حافظ فيها على سيادة القرار البحريني قدر استطاعته أمام قوى عظمى، بل هي الأعظم حين ذاك، إنما كشفت لنا تلك الوثائق في ذات الوقت أن الشيخ كان حاملاً لفكر متقدم متنور وضع به الأسس لدولة مدنية اتسعت فيها المشاركة الشعبية بهذا القدر في إدارة شؤون الدولة بشكل متفرد في المنطقة، بل إنه واجه محاولات عزله بتزعمه كتابة عريضة شعبية طالبت وللمرة الأولى في تاريخ المنطقة بمجلس تشريعي إلى جانب بقائه في الحكم.
والسؤال الذي طرحناه في كتاب قصة الصراع السياسي «في هذا السياق لماذا لا يطلق تعبير «حركة وطنية» على موقف الشيخ عيسى بن علي في مواجهته الإنجليز، وهو الموقف الذي كلفه إمارته، واستدعى عزله تحت تهديد السلاح والبوارج والمدافع البريطانية، بينما كان يستطيع أن يهادن من أجل تعزيز حكمه». (ص 100).الخلاصة أنه تاريخنا نكتبه نحن يثبت الحدث دون زيادة أو نقصان، لكنه حين يصنف الحدث، فإنه يوصف وفق منظورنا الوطني هذه المرة، فما ادّعوه عناداً نصفه نحن حكمةً، وهذا واجب علينا نقدمه لأجيالنا حتى يعرفوا تاريخ دولتهم كيف تأسست وما قدمته الأجيال السابقة من أجل أن ينعموا هم بمكتسابتهم.