بدر علي قمبر


حين تطأ قدمك أرض مكة الحبيبة، تتبدّل الأحاسيس والمشاعر كليّاً عن تلك التي تعيشها في روتين الحياة اليومية، وتبلغ ذروتها في أيام ذي الحجة، حيث تحيا أجمل رحلة في العمر على الإطلاق. اعتدت أن أكتب سطور مقالاتي في هذه الفترة انطلاقاً من خلجات النفس، التي تعيش صدى هذه المشاعر الروحانية في رحاب مكة. مكة التي تتزين بأسمى المعاني، حيث يتفرغ المرء لله تعالى وحده، في واحة إيمانية فريدة من نوعها، لا يدرك عمقها إلا من اعتاد التردد على هذه الأرض الطاهرة، وتلذذ بخيراتها، مقتفياً أثر النبي ﷺ وصحابته الكرام في حجّة الوداع؛ في منى، وعرفات، ومزدلفة، ورمي الجمرات، والطواف، والسعي.

تجربة هذا العام في خدمة ضيوف الرحمن، ضمن الطاقم الإداري لحملة صُهيب الرومي، كانت مليئة بالدروس والمعاني. وفي أجواء أكبر تجمّع للحجاج، تشرفت من خلالها بخدمة الحجاج والعمل على راحتهم. كانت تجربة ثرية بالعطاء وجديدة من نوع آخر، بذل فيها كل فرد من الطاقم الإداري أقصى ما يستطيع، في صورة تعاونية تشبه خلية نحل نشطة ومنتجة، حيث كانت «اللحظة» في الحج ذات قيمة عظيمة، في البذل، والعطاء، والاستعداد، والتجهيز لكل منسك من مناسك الحج.

وكان أجمل ما في التجربة، هو استشعارك لجمال اللحظة وأثرها، وسعادتك بأن تقدم شيئاً لضيوف الرحمن. لذلك، أطلقت على هذه التجربة عنوان «أجمل رحلة»، كما اعتدت تسميتها في كل عام، وقد أضفت عليها هذا العام لقباً خاصاً: «»أجمل رحلة مع صهيب».

دائماً ما تكون هذه المحطة الإيمانية بالنسبة لي نقطة تجديد في الإيمان والحياة، وتحول في مسار العمر، لأنني مؤمن بأن الإنسان في حياته العادية يضعف، وتعتريه فترات من الفتور والانشغال بتفاهات الدنيا. وهو بحاجة إلى وقفة تعيده إلى ذاته، وتُذكّره بقيمته في الحياة، وغاياته السامية، وبالنِّعَم التي أغدقها الله تعالى عليه.

هي محطة يخلو بها الإنسان إلى نفسه، يستعرض فيها نعم الله وآلائه، ويتأمل فيها قيمة الدنيا والآخرة. تجربة هذا العام كانت بالنسبة لي تحدياً كبيراً، وفي ذات الوقت فرصة لمراجعة النفس، وترويضها، وإعادة ترتيب بعض المفاهيم التي طفت على السطح، ونحتاج دوماً إلى تجديدها حتى لا نضل الطريق، ولتُصلِح علاقتنا مع الله عزّ وجل.

وعندما أقول «تجربة»، فإنني أتحدث عن مشاعر عميقة غمرتني خلال هذه الرحلة، والتي كانت بالفعل رحلة لتجديد الأحاسيس، وتغيير بعض القناعات التي ظننا يوماً أنها صائبة في مسيرة حياتنا.

وسط الجموع الكبيرة من الحجاج، رأيت نفوساً تعيش هذه المشاعر لأول مرة، تؤدي أول حجة لها، وتُظهر شوقاً ولهفة كأنها عثرت على كنز افتقدته طيلة حياتها. ولِمَ لا؟ وهي الآن في أطهر بقاع الأرض، في أجمل الرحلات، وفي ظل شرف الزمان. وقفت في عرفة، فاستشعرت عظمة الموقف، وتطهرت من شوائب الدنيا، وتعلّق قلبها بالآخرة.

رأيت نفوساً تحرص على أن تكون حجتها خالصة لله، خالية من الشوائب، مؤدية للمناسك كما أرادها الله تعالى، وعلى هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. نفوساً تحمد الله تعالى أن اصطفاها من بين البشر، لتكون ضمن وفده، وتتلذذ بأجواء إيمانية لا يعرفها إلا من ذاقها.

إنه الاصطفاء الحقيقي، ناتج عن صدق النوايا، وإخلاص المشاعر، والإيمان العميق بأن ما عند الله هو الأبقى. اصطفاءٌ يحمّل النفس مسؤولية عظيمة، لتخلو من كل ما يثقلها، وترفع يديها إلى الله، تبثه حاجاتها، وتفرغ بين يديه كل ما يعتلج في داخلها، طمعاً في عفوه وغفرانه ولطفه. هي نفوس فاضت منها العَبرات، وتضرعت إلى الرحمن، تسأله الستر، وطول العمر، والثبات، لتكون من خلفائه الصالحين في الأرض. إنها رحلة تخلي عن الأهواء، وعن معارك الحياة، وكل ما يُرهق النفس.وبعد نفحات عرفة، ترى الوجوه غير الوجوه، والقلوب غير القلوب، كأن شيئًا قد تبدل، وكأن الله ألقى في رُوحهم طمأنينة، وألهمهم ذكره، ووفقهم لطريق الاستقامة والثبات على دينه.تبقى رحلة الحج حكاية من أجمل حكايات العمر، وتجربة ثرية بالمعاني، لا ينبغي أن تمرّ مرور الكرام، بل تستحق التأمل والمراجعة والمحاسبة، حتى يكون كل منسكٍ فيها خطوة نحو التغيير والارتقاء. رحلة تظل معانيها معك طيلة حياتك، ذلك لأنك ـ بلا شك ـ سوف تفكر في العودة مرة أخرى إلى مثل هذه الرحلة، لتتجدد مراراً وتكراراً، وتضع عن كاهلك أثقال الحياة المُعقدة.ومضة أملالحياة محطات سفر مؤقتة، وفي كل محطة، عليك أن تختار أجمل الرحلات، لتتزود لآخرتك، ولا تركن إلى الدنيا، فتقع في غفلة، وتبتعد عن الله تعالى.