في الزمن القديم، كان الحاج يعود من مكة محملاً بالروحانية والخشوع والسكينة التي ترافقه طويلاً بعد أداء المناسك. اليوم، يعود بعض الحجاج محملين بشيء آخر تماماً: فواتير، قروض، وقائمة نفقات تبدأ من لحظة الحجز، ولا تنتهي حتى آخر ضيف يخرج من حفل الاستقبال.
صار الحج في زماننا يشبه مشروعاً استثمارياً مدروساً، يبدأ بمرحلة الحملات التي صارت تعرض برامج الحج كما تُعرض العروض السياحية الفاخرة، مع تصنيفات حسب الدرجة: باقة ذهبية، وفضية، وبلاتينية، وشعائر بخدمة «الخمس نجوم». كلما ارتفعت الباقة زادت معها الأرقام على العقود البنكية. والحاج المسكين، بين شغفه بالطاعة وخوفه من ضغوط القبول الاجتماعي، يجد نفسه يدفع ما يوازي قيمة سيارة فاخرة لينال مقعده في رحلة العمر.
لكنّ العودة من الحج تحولت إلى مشروع آخر لا يقل كلفة عن الرحلة نفسها. حفل الاستقبال صار جزءاً من طقوس ما بعد الشعائر. تبدأ مظاهر الاستعداد قبل العودة بأسابيع: زينة تملأ الشارع، عبارات الترحيب تعلق في كل زاوية، والخيم تنصب لاستيعاب الضيوف الذين سيتوافدون للتهنئة.
أما البوفيهات فهي فصل كامل من الحكاية، حيث تتسابق العائلات في إعداد موائد تُرضي كل الأذواق، من الكبسة الخليجية إلى السوشي الياباني. ولا تكتمل الحفلة دون الهدايا والتوزيعات التي أصبحت فناً مستقلاً بذاته، يتفنن فيه المصممون والموردون، وتدور حوله اجتماعات عائلية مصغرة لاختيار التصاميم والعلب والأشرطة التي «تليق بمقام الحاج».
وسط هذا المشهد الاحتفالي الباذخ، يتحول بعض الضيوف إلى نقاد غير معلنين، يقيّمون تفاصيل الحفل كما لو أنهم في لجنة تحكيم لمسابقة تلفزيونية. تجد من يهمس قائلاً «التوزيعات كانت فخمة بصراحة»، وآخر يعلق: «البوفيه مرتب، لكن ناقصة كم صنف حلو»، وثالث يتحدث عن طريقة دخول الحاج وكأنها زفة عرس، فيقول «كان الاستقبال حلواً، بس طولوا شوي، وهم يسوون الحركات». الكل يدلي برأيه وكأن الحفل خُصص لاستعراض التنظيم لا للاحتفاء بالعودة من أطهر بقاع الأرض.
المفارقة الأثقل من كل ذلك أن كثيرين ممن لم تتح لهم فرصة الحج بعد، يتابعون هذه المشاهد، وهم يراجعون حساباتهم البنكية بحسرة، لأن كلفة الحج نفسها صارت تتجاوز طاقة أسر متوسطة بالكاد تستطيع توفير ضروريات الحياة. بات الحج عند البعض حلماً مؤجلاً إلى أجل غير مسمى، ليس لعجزهم عن الطاعة، بل لعجزهم عن مجاراة تكاليفها، بدءاً من رسوم الحملات وحتى تذاكر السفر، وانتهاءً بفاتورة استقبال الحاج نفسه بعد العودة.
وبصراحة، الحج عبادة عظيمة لا تحتاج كل هذا التصعيد الاجتماعي، طقوسه العظيمة تؤدى هناك بين عرفات والمشاعر المقدسة، وبالتالي نحن بحاجة لأن نعود إلى أصل الحكاية، حيث كانت التهاني صادقة، والدعاء خالصاً، وحبة تمر مع قهوة كافية لصناعة ذاكرة لا تنسى. أما ثقافة الاستعراض التي تسللت إلينا تحت لافتة حسن الاستقبال، فهي لم تعد سوى عبء ثقيل يرهق الحاج وأسرته أكثر مما يبهجهم. الحج طاعة، وليس مشروع حفلات. ومن ذهب إلى هناك، عاد برضى ربه لا بحاجة إلى تقييم لجنة حفلات محلية.