لا يُقاس الرُقيّ دائماً بالمباني الشاهقة ولا بالخدمات الفاخرة، بل بلحظة صغيرة تُشعرك أنك مُقدّر، وإن كنت مجرد مسافر في طريقه للعبور.
وصلت إلى مطار البحرين استعداداً لرحلة علاجية برفقة والدتي. لا شيء استثنائياً في المشهد، إلى أن التقيت بشابٍ بحريني عند منصّة الاستقبال. لم يكن يرتدي عباءة مدير، ولا جلس خلف مكتب فاخر، لكنه قدّم خدمةً تساوي الكثير.
كان اسمه «أمين»، ويكفيه أن اسمه يختصر طباعه. لم يسأل كثيراً، لم يطلب أوراقاً إضافية، لم يُثقل علينا بأسئلة روتينية. كل ما فعله أنه أنصت، ثم ابتسم، ثم بدأ يعدّل مقاعد الطائرة بهدوء ولُطف، وكأنه يرتّب كراسي راحته هو، لا مقاعدنا.
ذلك النوع من الموظفين الذين يُشعِرونك أنك لست غريباً.. بل ضيفٌ في داره.
في لحظة، تحوّل إجراء بسيط إلى تجربة إنسانية. لم يكن مجرّد تعديل للمقاعد، بل كان انحيازاً مهنياً للذوق، وفهماً عميقاً لدور الموظف الحقيقي؛ ذلك الذي لا يكتفي بتأدية المطلوب، بل يُضيف من ذاته ما يجعل الآخرين يتذكرونه طويلاً، لا لأن اسمه مميز، بل لأن حضوره كذلك.ثم صعدنا إلى الطائرة.
وهناك تكرّر المشهد، ولكن هذه المرة في الجو.
طاقم بحريني يشعرك أن الوطن لم يُبقِك في المطار، بل صعد معك إلى الطائرة. أحدهم يُجيد التحدث بأكثر من لغة، يتنقّل بين المسافرين بخفة المُحترف، والآخر لا تفارقه ابتسامة تنبع من حبٍّ حقيقي لعمله، لا من أوامر إدارية.
وحين علموا أننا في رحلة علاج، كان اهتمامهم بنا مضاعفاً، وكأنهم يحملون عنّا بعض التعب.
عندها فقط، أدركت أن طيران الخليج لم تعد مجرد شركة طيران. بل تحوّلت إلى تجربة متكاملة تنقلك من المكان، وتحرّك فيك الإحساس.
فهذه المؤسسة الوطنية، التي كانت ولاتزال أحد رموز البحرين، تشهد اليوم تطوراً لا يقتصر على الأسطول الجوي والتقنيات الحديثة، بل يشمل العنصر الأهم: الإنسان.
هو الموظف الذي يرى في عمله رسالة، لا مجرّد وظيفة.
ذلك الذي يدرك أن المسافر لا يحتاج دائماً إلى تذكرة درجة أولى، بقدر حاجته إلى تعامل من الدرجة الرفيعة.
فأمثال «أمين»، ومن يشبهه من أبناء هذا الوطن، لا يُمثلون جهة عملهم فقط، بل يُجسّدون صورة البحرين في عيون الآخرين.
ليسوا مجرد موظفين.. بل وجوه تُصافحك قبل أن تصل، وقلوب تُرافقك حتى بعد المغادرة.
وفي زمنٍ باتت فيه الخدمة تُقاس بالسرعة والتقنية، مازال هناك من يؤمن أن الدفء الإنساني هو ما يصنع الفرق.
وما أجمل أن تُسافر من وطنك.. فتكتشف أن الوطن سبقك، واستقبلك، ورافقك حتى مقعد الطائرة.
وبصراحة.. هكذا تطير طيران الخليج.. لا بأجنحة حديد فقط، بل بأجنحة من خلق ووفاء.
وهكذا يظل الانتماء أعلى من كل ارتفاع.