قد تصبح تقنيات التشفير التي تحمي جميع المعاملات الإلكترونية عبر الإنترنت عديمة الفعالية بين عشية وضحاها، في ظل سباق عالمي متسارع لتجنّب كارثة رقمية وشيكة. بينما تعتمد الأجهزة التقليدية مثل الهواتف الذكية على معالجة المعلومات بصيغة 1 و0، تعتمد الحوسبة الكمّية على وحدات تُعرف بـ«الكيوبتات» (Qubits)، التي يمكن أن توجد في حالات متعددة في الوقت ذاته. يشبه هذا قراءة كل كتب المكتبة دفعة واحدة بدلاً من تصفحها واحداً تلو الآخر، وهو ما يمثل تحولاً جذرياً في منهجية حل المشكلات، مستنداً إلى خصائص فيزياء الكمّ في تنفيذ حسابات تتطلب آلاف السنين على الحواسيب التقليدية.لم يعد هذا التحول مجرّد نظرية، فقد بدأت الحوسبة الكمّية بالانتقال من المختبرات إلى أرض الواقع. حيث توفر شركة IBM الحواسيب الكمّية عبر السحابة، بينما أثبتت Google تفوّق أنظمتها الكمّية على الحواسيب الخارقة التقليدية بمراحل. وتوفر شركات مثل Microsoft من خلال منصة Azure Quantum، وAmazon Web Services عبر خدمة Braket، وصولاً مباشراً لهذه التقنية. في الوقت نفسه، تعمل شركات ناشئة مثل Rigetti وIonQ على تطوير وتسويق أجهزة كمّية متقدّمة، مما يعزز نمو النظام البيئي للحوسبة الكمّية ويجعلها واقعاً ملموساً في عالم الأعمال.أمام هذا التحول، أصبح «الاستعداد للحوسبة الكمية» ضرورة ملحّة للأفراد والمؤسسات الساعين إلى الحفاظ على قدرتهم التنافسية وأمنهم المعلوماتي. ويعني ذلك التهيؤ لعالم تصبح فيه هذه التقنية جزءاً من التيار السائد، من خلال فهم التحديات المصاحبة لها والفرص التي تتيحها للابتكار والنمو. تماماً كما اضطرت المؤسسات سابقاً إلى التكيّف مع صعود الإنترنت والتقنيات المحمولة، فإن عليها اليوم استباق التغيرات التي ستحدثها الحوسبة الكمّية على الأمن السيبراني والعمليات والاستراتيجيات المؤسسية.أحد أبرز المخاوف يتمثل في قدرة الحوسبة الكمّية على كسر أنظمة التشفير الحالية، ما يهدد الأمان الرقمي، من الحسابات البنكية إلى الاتصالات الحكومية. لذا، تتسابق الحكومات والمؤسسات لتطوير معايير تشفير مقاومة للكمّ، وتبنّي استراتيجيات «مرونة التشفير» (Crypto-Agility) التي تتيح تحديث الحماية بسرعة عند ظهور تهديدات جديدة.لكن الفرص لا تقل أهمية عن التحديات. حيث تفتح الحوسبة الكمّية أبواباً لتحولات جذرية قد تُغيّر ملامح الصناعات من خلال قدراتها الفريدة على المحاكاة والتحسين. فعلماء المواد يستخدمون المحاكاة الكمّية لتصميم بطاريات جديدة وموصلات فائقة. وتُضخّم الشراكة بين الحوسبة الكمّية والذكاء الاصطناعي هذه الإمكانيات، إذ يُسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين أداء الأنظمة الكمّية من خلال تقليل الأخطاء، بينما تسرّع الحواسيب الكمّية من عملية تدريب النماذج على مجموعات بيانات ضخمة. ويُنتج هذا التكامل أدوات قوية لتحسين حركة المرور، وإدارة شبكات الطاقة، وتحليل المخاطر، بطريقة لا يمكن لأي من التقنيتين تحقيقها بمفردها.يبدأ بناء الوعي الكمّي من الاعتراف بأن هذا التحول بدأ فعلياً، حيث تتوسّع الجامعات والشركات في تقديم برامج تعليمية متخصّصة في الحوسبة الكمّية، انطلاقاً من قناعة بأن الإلمام بهذه التكنولوجيا سيُصبح ضرورياً. سواء كنت تخطط لاستراتيجية مؤسسية، أو تدير المخاطر التكنولوجية، فإن وقت الاستعداد قد بدأ بالفعل.الاستعداد للكمّ يبدأ بالوعي بأن المستقبل بدأ الآن، والسؤال «هل ستُغيّر هذه التكنولوجيا عالمنا؟» بل «إلى أي مدى سنكون مستعدين عندما يحدث ذلك؟».
د. جاسم حاجي
Opinion
الاستعداد لثورة الحوسبة الكميّة
15 يوليو 2025