في قلب التحولات الإقليمية والدولية، وبين مشهد عالمي يضج بالاضطرابات السياسية والتحديات الاقتصادية والأمنية والتكنولوجية، تبرز زيارة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط كحدث دبلوماسي رفيع المستوى، بل كعلامة فارقة تؤسس لمرحلة استراتيجية جديدة في علاقات البحرين مع القوى الدولية، وتعيد رسم ملامح شراكة إقليمية أوسع نحو الاستقرار والنمو.

ليست الحزمة الاستثمارية الضخمة التي تم الإعلان عنها، وتبلغ قيمتها نحو 17 مليار دولار، مجرد رقم اقتصادي يُدرج ضمن جداول التعاون، بل هي مؤشر واضح على عمق الثقة المتبادلة بين المنامة وواشنطن، وعلى نضج العلاقة الثنائية التي تجاوزت الطابع البروتوكولي إلى شراكة شاملة تتقاطع مع الملفات الكبرى في الدفاع، والطاقة، والابتكار، والاقتصاد الرقمي، وتوقيع اتفاقية شراء 18 طائرة من طراز بوينغ B787، و36 محركاً من جنرال إلكتريك، ليس استثماراً في النقل فقط، بل هو استثمار في الحضور الجيوسياسي للبحرين وفي قدرتها على أن تكون مركزاً لوجستياً إقليمياً عالي الكفاءة.

الاتفاقية الشاملة للتكامل الأمني والازدهار (C-SIPA) التي جمعت البحرين والولايات المتحدة، وانضمت إليها المملكة المتحدة مؤخراً، ليست مجرد وثيقة دفاعية، بل هي خارطة طريق متعددة الأبعاد، إنها امتداد واقعي لرؤية «اتفاقات إبراهيم» التي دشنت مرحلة جديدة من التفاهمات الشرق أوسطية، ولكن هذه المرة من بوابة الأمن الجماعي، والتكامل التكنولوجي، والاقتصاد المعرفي، والردع الذكي، وفي وقت تتراجع فيه بعض القوى الإقليمية عن التزاماتها تجاه السلم، وتتسع رقعة الصراعات الهجينة، يظهر C-SIPA كإطار فاعل يعزز من قدرة الدول الصغيرة على التكتل مع الحلفاء الكبار، وخلق توازنات جديدة لا تقوم على الصراع، بل على التفاعل الذكي والاحتواء الاستراتيجي.

وسط منطقة تواجه تحديات مركبة من الإرهاب، وتضخم الطموحات النووية لبعض الدول، والأزمات الإنسانية، تأتي أهمية التأكيد البحريني الأمريكي المشترك على تعزيز مسارات الأمن والدفاع، لاسيما في ضوء العلاقات التاريخية مع الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، والتي تمتد لأكثر من 80 عاماً، هذا التعاون ليس ضماناً لأمن الخليج فقط، بل هو ركيزة للاستقرار العالمي، ولحماية الممرات البحرية التي تُعد شرياناً للاقتصاد الدولي، وفي ظل هذا المشهد، تبرز البحرين كدولة صغيرة بحجمها، كبيرة برؤيتها، تدفع نحو التهدئة لا التصعيد، وتُسهم في هندسة الأمن الإقليمي لا في تصدير الأزمات.

واحدة من الرسائل العميقة في هذه الزيارة هي التحول الذكي في توجهات البحرين الاقتصادية، فالمملكة لا تعوّل فقط على عائدات النفط أو التمويل التقليدي، بل تطرح نفسها كمركز إقليمي للتكنولوجيا والصناعات المتقدمة، البيئة التشريعية المحفزة، والبنية التحتية الرقمية، والكوادر البشرية الشابة، كلها أدوات تُستخدم ببراعة في بناء اقتصاد تنافسي مستقبلي، يتقاطع مع الأجندة الأمريكية في مجال الثورة الصناعية الرابعة، وحوكمة الذكاء الاصطناعي، والطاقة النووية السلمية، وهنا لا تبدو الشراكة مع واشنطن مجرد تحالف مصالح، بل تحوّلت إلى معادلة استراتيجية يتكامل فيها الأمن مع الاقتصاد، والجيواستراتيجيا مع التكنولوجيا.

وفي ظل الانقسامات الدولية بشأن قضايا حقوق الإنسان، كان لافتاً حرص سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء على التأكيد بأن الشراكة مع الولايات المتحدة تنطلق من قيم مشتركة واحترام متبادل، وأن البحرين لا تنظر إلى الأمن فقط من عدسته العسكرية، بل من زاوية التنمية، والتعليم، والعدالة، وتمكين الإنسان، من هنا، فإن ما يتم تفعيله في إطار C-SIPA ليس تحالفاً تقليدياً، بل نموذجاً مرناً يمكن أن يلهم دول المنطقة بأن التقدم الحقيقي يبدأ من الداخل، وينمو بالتعاون لا بالتقوقع.

ما نشهده اليوم ليس مجرد زيارة رسمية، بل إعلاناً صريحاً عن دخول البحرين مرحلة جديدة من هندسة المستقبل، حيث الدبلوماسية تتحول إلى استثمار، والسياسة إلى شراكة، والأمن إلى تكامل.

في زمن الأزمات، لا يكفي أن تكتفي الدول بالمراقبة أو بردّ الفعل، بل لا بد من أن تبادر بصياغة الأطر التي تضمن الاستقرار المشترك، وهذا بالضبط ما تفعله البحرين اليوم، من واشنطن إلى الخليج، من الأمن إلى الاقتصاد، من الحاضر إلى ما بعده.

* اعلامية وباحثة أكاديمية