كثيرون هم الذين يدّعون المحبّة والأخوّة والاحترام والحُبّ، يملؤون رأسك بالمديح الزائف والنفاق الظاهر، يصفّقون لكلّ ما تقوم به، سواءً أكان حقاً أم باطلاً، خيراً أم شرّاً، وكأنّ لسان حالهم يقول:إذا نحنُ أثنينا عليك بصالحٍ * فأنتَ كما نُثني وَفَوْقَ الذي نُثنيأو كما قال ابن نباتة المصري:وَ وَاللهِ ما نوفي أياديك حقّهاإذا نحنُ أثنينا عليك بصالحٍوبما أنّ النّفس البشرية تميلُ بطبعها إلى الإطراء والمجاملة، فإنّك كثيراً ما تُخدع بمثل هؤلاء، خاصةً في زمننا الذي اختلط فيه الحابلُ بالنابلِ، والمرعِيُّ بالهمَل، وتداخلتْ فيه المظاهرُ والآراء حتى غدا التّمييز بين الصادق والمخادع أمراً بالغ الصعوبة، فالوجوهُ باسمة، والقلوبُ دامية، والابتساماتُ ماكرة، ودموعُ التماسيح ليستْ سوى وسيلةُ خداعٍ سهلةٍ لاقتناص الفرائس.في خضّم هذا الزّيف، تجدُ بعضَ أصحاب القلوب المريضة ينادونك بأجمل الألقاب أمَامك، ويسمّونك بأقبحها خلفك، فأنتَ في ظاهرهم «الحبيبُ العزيز»، وفي باطنهم «العدُوّ اللدود».يمتدحونك بكلام منمّق، ثم ينالون منك بمجرّد أن تغيبَ عَنْ أعينهم؛ لكونهم ذئاباً في ثياب، «فلا أدب يفيد ولا أديب» لا يعرفون للصدّاقة حقّاً، ولا يمنعهم حياءٌ عن الطّعن والهمْز واللمز، يدّعون الإخلاص، وهم في الحقيقة لا عهد لهم ولا ذمّة، ولا وفاء ولا ملح.وما الناس بالناس الذين عهدتُهمولا الدارُ بالدارِ التي كنتَ تعرِفُوما كلُّ من تَهوى يحبَّكَ قلبُهُولا كلُّ مَنْ صاحبتَه لك مُنصـفُوقد ألّف الإمام العلامة محمد بن خلف بن المرزبان بن بسام، أبو بكر المحولي «ت ٣٠٩هـ»، كتابه «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»، مبيّنًا فساد بعض الناس ولؤم طباعهم الذين يأكلون لحوم أصدقائهم دون إضافة شيء من الملح الذي كان بينهم!! وهو بالمناسبة مؤلف كتُبٍ نفيسةٍ منها:»المروءة» بتحقيق محمد خير رمضان يوسف، و«ذمُّ الثقلاء» بتحقيق د.مأمون محمود ياسين.فيقول رحمه الله:«ذكرت أعزّك الله زماننا هذا وفساد مودّة أهله وخِسَّة أخلاقهم، ولُؤم طباعهم، وأنّ أبعدَ الناس سَفراً مَنْ كانَ سفرُه في طلبِ أخٍ صالحٍ، وَمَنْ حَاولَ صاحباً يأمن زَلّتَه، ويدومُ اغتباطه كانَ كصاحبِ الطريق الحيرانِ الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد منْ غايته بُعداً فالأمر كما وصفتُ».ذهبَ الذين يُعاش في أكنافهموبقيتُ في خلف كجلدِ الأجْرَبِويقول كذلك: «ولو فتشّت في دهرنا هذا لوجدتَ كثيراً ممن تعاشره إذ لقيكَ رحَّب بك وإذ رغبتَ عنه أسْرفَ في الغيبةِ وتلقَّاكَ بوجه المحبّة ويضمرُ لك الغشَّ والمسبَّة».لقد انحدر هؤلاء إلى قاع النفاق، وشربوا من ينابيع الخديعة حتى صاروا لا يُؤمَن جانبهم، ولايرجى خيرهم، إنهم إخوان السوء، وأصدقاء المصالح، وزملاء الطمع، وطلاب الفرص.شمعة أخيرةأشرتُ إلى ظاهرة اجتماعية منتشرة منذ قديم الزمان، ولا أقصدُ أحداً بلحمه وشحمه، فليحسن القارئ الظنّ، قال الشاعر:ولا خيرَ في ودّ امرئٍ متلوّنٍإذا الريحُ مالت، مال حيث تميلُ.
Variety
تأمّـلات في أخـوّةِ المصـالح
18 يوليو 2025
د. سعد الله المحمدي