يشكّل التاريخ حجر الأساس في بناء الهوية الوطنية، فهو ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو سجلٌ للذاكرة الجمعية، ومنبعٌ للفخر، وجسرٌ يصل بين الأجيال.

وعندما نتحدث عن الهوية الوطنية، فإننا لا نعني فقط الانتماء الجغرافي أو السياسي، بل نلامس أعماق الانتماء الثقافي والديني واللغوي، وهي مكونات لا تكتمل إلا بالتاريخ.

في البحرين، تتجلى أهمية التاريخ في ترسيخ هوية وطنية عريقة، متعددة الأبعاد، تستند إلى العروبة، والإسلام، والخصوصية الثقافية التي صاغتها الجغرافيا والتجربة. فمنذ آلاف السنين، كانت البحرين موطناً لحضارات عريقة كدلمون، ومركزاً تجارياً وثقافياً في الخليج العربي، ما يعكس عمقها التاريخي وموقعها الحيوي. ولم يكن هذا الإرث مجرد ماضٍ غابر، بل ظلّ حاضراً في وجدان البحرينيين، ملهِماً لهم في مراحل النهوض الوطني والسياسي.

ويُعد التاريخ أكثر من مجرد علم أكاديمي، فهو أداة لتفسير التغيرات الاجتماعية، وفهم تفاعلات الشعوب، وبناء وعي حضاري يساعد على استشراف المستقبل. ومن خلاله، نستطيع استخلاص الدروس من النجاحات والإخفاقات، وتعزيز الشعور بالاستمرارية والانتماء، وتقدير التضحيات التي أسّست الحاضر، ورسّخت أسس الدولة الحديثة.

تلعب دراسة التاريخ الوطني دوراً محورياً في تعزيز الولاء والانتماء، إذ تجعل الفرد أكثر وعياً بجذوره، وأكثر ارتباطاً بوطنه، ففي البحرين يستحضر المواطن محطات التأسيس والبناء، ورموزاً أسهمت في صون السيادة والحفاظ على الهوية، ليعي أنّ حاضره ثمرة جهدٍ ممتد، وأنّ عليه مسؤولية استمراره.

إنّ الفهم العميق للتاريخ يمنح المواطن وعياً أوسع بجذوره، ويُكسبه أدوات التحليل التي تعينه على مواجهة محاولات التشويه أو طمس الحقائق. فمعرفة الإنسان بأصله ومساره التاريخي تعزز ارتباطه بقيمه وهويته، وتجعله أكثر وعياً بما ينبغي الحفاظ عليه. وفي مجتمع كالبحرين، حيث تتلاقى الهويات الدينية والقومية والثقافية، لا يُعد التاريخ ترفاً معرفياً، بل خياراً استراتيجياً لضمان التماسك الوطني والوعي الجمعي.

تُمثّل اللغة العربية أحد أعمدة الهوية البحرينية، فهي ليست مجرد أداة تواصل، بل وعاء للذاكرة الوطنية، ومرآة للثقافة والقيم التي تشكّلت عبر قرون. فقد ارتبطت العربية بتاريخ البحرين منذ أقدم العصور، وكانت اللسان الذي عبّر عن الوجدان الجمعي، وساهم في نقل التراث، وتوثيق الأحداث، وبناء الشعور القومي والانتماء الخليجي والعربيّ.

أما الدين الإسلامي، فقد كان محوراً جوهرياً في صياغة الوعي البحريني، ومنظومة القيم التي قامت عليها العلاقات الاجتماعية والسياسية. فقد ساهم الإسلام في ترسيخ مبادئ العدالة، والتسامح، والتعايش، والتكافل، وأصبح عاملاً موحّداً بين مكونات المجتمع، ومصدراً رئيساً لقوة الهوية البحرينية واستمراريتها في مواجهة التحديات.

ومن صميم هذه القيم التي رسّخها الإسلام السمع والطاعة لوليّ الأمر، لما فيها من حفظٍ للنظام، وحمايةٍ للمجتمع، وصيانةٍ للوحدة، فقد قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»، وهي طاعة تُبنى على الإيمان والوعي بمسؤولية الحفاظ على الوطن ووحدته، وتجسيد لمفهوم المواطنة الراشدة، التي ترى في الدولة قيادةً وسياجاً، وفي الطاعة سلوكاً حضارياً يُسهم في أمن المجتمع واستقراره.

ولهذا، فإنّ الهوية البحرينية التي تَشَكّلت في ضوء الإسلام، ظلت متماسكة، متجذّرة، ومرتبطة برؤية شرعية تُعزّز الانتماء وتُؤصّل الولاء.

وفي ظل التحديات المعاصرة، كالعولمة وتغيّر القيم، تتعاظم أهمية التاريخ بوصفه أداةً للدفاع عن الهوية، وحصناً يحمي الخصوصية الوطنية من الذوبان في الثقافات الوافدة.

وهنا تتأكد الحاجة إلى ترسيخ التاريخ الوطني في المناهج التعليمية، والبرامج الإعلامية، والمبادرات الثقافية، ليبقى مصدراً للإلهام، ومرجعية تربوية وثقافية تنير طريق الأجيال.

ختاماً، فإنّ تعزيز الهوية الوطنية لا يكون بالشعارات فقط، بل بغرس الوعي التاريخي في الأجيال، وتحويل التاريخ إلى موردٍ حيّ في التعليم والثقافة والإعلام، فبقدر ما نتمسك بتاريخنا، نُحصّن حاضرنا، ونصوغ مستقبلاً وطنياً أكثر تجذراً واستقراراً. والبحرين، بتاريخها العريق، تقدم اليوم نموذجاً لهوية وطنية متماسكة، تؤمن بأنّ الماضي ليس عبئاً، بل دافعاً نحو مستقبلٍ أوضح وأقوى.

* باحثة في التاريخ وأكاديمية