كلما زرت مصر، شعرت أن قلبي يعود عشرين عاماً إلى الوراء، هناك في القاهرة أو في الإسكندرية أو حتى في عمق الصعيد، أجدني أنسى التعب والهم وأذوب وسط ملامح الناس، وضحكاتهم العفوية، وقلوبهم الواسعة.
ولا أبالغ إذا قلت ما من بلد زرتها أكثر من مصر، وما من بلد كلما غادرتها شعرت أنني أترك خلفي بيتاً لا تنتهي فيه الحياة، فمنذ زيارتي الأولى منذ سنوات عرفت أن الحب الحقيقي لا يُصنع بل يعاش في كل لحظة، إذ إن الشعب المصري لا يستقبلك بالكلمات بل بالمحبة، يسألك عن أخبارك كأنك ابن الجيران، ويُصرّ أن تشاركه طعامه وشرابه وضحكاته كأنك واحد منهم، حتى وإن لم يعرف اسمك أو بلدك.
لكن مصر ليست فقط دفء ناسها، بل هي أيضاً بلد لا يتوقف عن البناء والتطور؛ ففي كل زيارة لي أرى طريقاً جديداً.. مدينةً ناهضة.. مشروعاً عملاقاً، أو حيّاً أُعيدت إليه الروح، الريف تغيّر والعاصمة تتوسّع والمدن الجديدة تنبض، وكأنها تقول نحن لا نعيش على الماضي.. بل نبنيه للمستقبل.
وفي ذكرى ثورة 23 يوليو، أعود دائماً إلى الحكاية الكبرى التي لاتزال تحرك وجدان المصريين والعرب؛ فتلك الثورة كانت لحظة مفصلية في تاريخ مصر، إلى جانب كونها شرارة الأمل لكثير من الشعوب الباحثة عن التحرر والكرامة.
ثورة يوليو المجيدة؛ تلك الثورة التي فتحت الباب أمام العدالة الاجتماعية، والحق في التعليم، ومجانية الصحة، وتمكين الفلاح والعامل، وأعادت للمصري البسيط صوته ومكانته، ولم تكتفِ بذلك، بل مدت يدها لأشقائها في الوطن العربي؛ دعمت الجزائر في ثورتها، وساعدت فلسطين، واحتضنت المثقفين العرب، وأسهمت في صياغة فكر التحرر العربي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
لم تكن ثورة 23 يوليو مجرّد تغيير سياسي، بل كانت مشروعاً حضارياً له ما له وعليه ما عليه، لكنها كانت، في جوهرها، تعبيراً صادقاً عن حلم الشعوب في الكرامة والعدالة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على تلك اللحظة، لاتزال مصر تمضي.. تتجدد، وتُعيد قراءة نفسها وتتحدى الواقع، وتثبت دوماً أنها ليست فقط «أم الدنيا» على سبيل المجاز، بل بحقائق التاريخ وروح الشعوب ودروس الحضارة.
وكلما عدت إليها وتعايشت مع شعبها، قلت لنفسي؛ إذا أردت أن تفهم العربي ابدأ بمصر، وإذا أردت أن ترى كيف تقاوم الأوطان بالحب والعمل فاستمع لنبض الشارع المصري.
وفي كل ذكرى، وفي كل زيارة، أخرج من مصر وأنا أكثر يقيناً أن هذه البلاد لن تتوقف أبداً عن الدهشة.
إضاءة
في ذكرة ثورة 23 يوليو.. تحية لهذا البلد العظيم، وألف ألف تحية لشعبها الأصيل، وكل عام وأنتِ أم الدنيا وصانعة المستقبل.