بحثت بين سطور الأيام، فلم أجد سطوراً تُكتب إلا تلك التي تتحدث عن «غزة»، وعن حجم الألم والأسى الذي يلفّ حياة أهلها، بل يلفّ أصداء حياة كافة المسلمين، وكلّ الغيورين من أبناء الأمة، على الأحوال المُزرية التي آلت إليها تلك الأرض المباركة، وعلى المآسي والدماء التي تُزهق، وصرخات النساء والثكالى، وآهات الشيوخ والعجائز، وبكاء الأطفال.

الجميع لم يعُد يفكر إلا في قطرة ماء نظيفة تروي ظمأه، وكسرة خبز صغيرة يُطعم بها صغيره. لم يعُد يهمه المكان، بل أن يبقى على قيد الحياة، يتنعم بالخير، ويتبارك بأرض بارك الله فيها. فغزة جزء من أرض فلسطين المباركة، الأرض التي قال الله تعالى عنها: «التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ»، وقال سبحانه: «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُم».

ويُقال إن غزة هي موطن عدد من الأنبياء والعلماء، وهي من أحسن المدن المجاورة لبيت المقدس، وهي مولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي. كما أنها ثغر من ثغور المسلمين، ففيها عسقلان التي ورد في فضلها: «وإن أفضل رباطكم عسقلان»، مما يدل على فضل الرباط فيها مطلقاً.كل هذا وغيره من أمجاد التاريخ الإسلامي يؤكد ارتباط أهل غزة بأرضهم المباركة، ويكفيهم فخراً أنهم ينتسبون إلى أرض بارك الله فيها، وطئتها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فخراً وعزّاً للمسلمين على مرّ التاريخ.

سطورنا اليوم تتحدث عن واقع «مريح» نعيشه، وأيام نحمد الله فيها على السلامة والأمن والرزق الذي بين أيدينا، مهما بلغ من القلّة. ودائماً نضع حديث النبي صلى الله عليه وسلم نصب أعيننا: «من أصبح منكم آمنًا في سِربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».

لو تأملنا حالنا كل صباح، ونحن ننعم ببيت هادئ مطمئن، ننام على سرير دافئ، بلا خوف ولا وجل، ولا قلق من صاروخ أو رصاصة تنهي أحلامنا، وبدون أن نبيت ونحن لا نعلم هل نصحو صباحاً، أم تتخطفنا المنايا؟ إنها نعمة عظيمة نحمد الله تعالى عليها.

ولو تأملنا نعمة العافية، رغم ما نعانيه أحياناً من آلام أو أمراض، فإنها لا تقارن بأحوال أهل غزة، الذين لا يجدون مستشفيات كافية، ولا دواء، ولا رعاية طبية. إنها نعمة عظيمة نحمد الله تعالى عليها.

ولو تأملنا نعمة الطعام والشراب، وكمية الأطعمة التي نضعها على الموائد، أو نطلبها بضغطة زر، فتهلّ علينا صنوف الأكل بلا عناء، حينها نحمد الله على نعمته، ونخجل أن نترك لقيمات أو نرمي كوب ماء أو نُهدر نعمة الخبز في القمامة.

وعندما نتأمل نعمة الكهرباء، والمصابيح التي تنير المكان، والمكيف الذي ينسينا حرّ الصيف، حينها نستشعر هذه النعمة، ونخجل أن نترك مصباحاً أو مكيفاً يعمل دون حاجة، ليس فقط من باب التوفير، بل إحساساً بمشاعر أهلنا في غزة، الذين يعيشون في الخيام أو العراء، بلا ضوء أو هواء بارد.

ربما تُنسينا الغفلة النعم التي نغرق فيها، فلا نحمد الله تعالى ولا نشكره عليها، ولا نستشعر معاناة إخواننا الذين يُكملون عامين تحت حرب طاحنة، وإبادة جماعية، وحصار خانق، وتجويع مقيت، أودى بحياة الأطفال والكبار على حد سواء.

نحن اليوم مُطالبون أن نكتب قصة جديدة لحياتنا، لا نعتاد فيها النعم، ولا نفرط في الفرح والبهجة، ولا ننسى المآسي التي تمرّ بها أرض الإسراء والمعراج، وأرض المسجد الأقصى. يجب ألا نكون مجرد «هامش» على الأحداث، بل أن نشارك بما نستطيع: من كلمة، أو منشور، أو حديث في مجلس، أو دعم مالي، أو دعاء في الخلوات والصلوات، وأن نعيش لله، ومن أجل الله، وفي سبيل الله تعالى وحده.

فلنجعل من كل لقمة نأكلها، ومن كل نعمة نرفل فيها، تذكرة لنا بمصاب أهل غزة، وأن نُحدّث أنفسنا دوماً بحكاياتهم المؤلمة، ونكون عوناً لهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

غزة اليوم مشروع حياة، وميدان تربية، ومجال للتسليم لمقادير الأمور، وتربية عملية للأجيال. غزة اليوم مدرسة، تعلمنا منها أن نتخفف من أعباء الحياة، وأن نترك أثراً كما يتركون، وأن الصبر مفتاح الطمأنينة، وأن لا نستسلم لمكر المتربصين.

غزة علّمتنا حب الأرض، وحب ما عند الله تعالى، وحب لقائه. وليس من السهل فقد الأحبة، أو ضياع الأسر الكاملة، وبقاء أحدهم وحيداً بين ركام الذكريات.. فهو مُصاب أليم..

آن أوان العيش لله تعالى وحده، والتسليم لقضائه، والرضا بقدره، وأن نكون خلفاء الله تعالى في أرضه بحق، نستشعر نعمه، ونتمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».ومضة أمل

لكِ الله يا غزة.