الاستثمارات العربية البينية أكدت أنها قوة استراتيجية لا تحقق النمو الاقتصادي فحسب، بل تصون الأمن القومي العربي بأبعاده كافة، وأنها تمثّل أهمية كبرى في زيادة المعدلات الاقتصادية ورفع مستويات التنمية، فضلاً عن أن تعزيز التجارة البينية والعمل الاقتصادي العربي المشترك يسهم بشكل أساسي في تنشيط الفرص الاستثمارية والمشاريع التجارية والصناعية النوعية، وخلق فرص عمل جديدة ومتنوعة لأبناء الشعوب العربية.والزيارة الأخيرة للرئيس اللبناني جوزاف عون إلى البحرين أثبتت لنا أهمية فتح المزيد من الأبواب لشراكات استثمارية واعدة مع مختلف الدول العربية، خاصةً مع لبنان الذي بدأ يستعيد عافيته بعد سنوات الأزمة، وهذه النماذج من التعاون الوطيد التي نراها بين شتى الدول العربية تؤكد أن رأس المال العربي حين يجد طريقه بين الأشقاء، يصبح أداة للبناء والاستقرار قبل أن يكون مصدراً للأرباح أو نمو الاقتصاد.البحرين تنظر إلى لبنان كشريك اقتصادي له تاريخ طويل من التفاعل الإيجابي مع بيئة البحرين، من خلال كوادر لبنانية متميزة في القطاعات المهمة، في حين أن البحرين يمكن أن تكون منفذاً للشركات اللبنانية إلى أسواق الخليج، لاسيما في مجالات التكنولوجيا المالية والتمويل الإسلامي والخدمات اللوجستية والسياحة والتعليم، فبذلك تستفيد البحرين من الخبرة اللبنانية في مجالات مثل الطب والهندسة بينما يجد اللبنانيون في البحرين سوقاً واعدة لاستثماراتهم وجسراً للتواصل مع الخليج والمنطقة.واليوم نرى السعودية تقف بكل قوتها خلف سوريا لتعزز فيها الازدهار الاقتصادي كبوابة لتعزيز الازدهار الأمني، فهي ترى مستقبلاً واعداً في سوريا، وتوّجت هذه الرؤية بزيارة الوفد السعودي مؤخراً إلى دمشق بتوجيه من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، والتي شهدت توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم بقيمة إجمالية تصل إلى 6.4 مليار دولار، وهو ما يؤكد نية السعودية الواضحة لإعادة دمج سوريا في المحيط العربي وخريطة المشهد الاقتصادي إقليمياً ودولياً، وأن الرؤيتين السعودية والسورية تسيران على الطريق الصحيح.بالإضافة إلى الإمارات التي استثمرت مليارات الدولارات في مصر خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك مشروع رأس الحكمة ومدينة العلمين الجديدة وغيرها من المشاريع العقارية والسياحية، والتي دفعت بالتعاون العربي وشكّلت نقطة ارتكاز للاقتصاد المصري الذي يمر في مرحلة تحول حالياً، وعززت من قدرة مصر على تجاوز الأزمات الاقتصادية والحفاظ على استقرارها.لذا فلا عجب بأن الخليج يستحوذ على 80% من التجارة العربية البينية في العام 2023، وأن حجم التبادل التجاري البيني بين البحرين والدول العربية بلغ 8.6 مليار دولار في العام ذاته، وفي الواقع فإن ذلك يعكس إدراك الخليج ككل بأن كل دولار عربي يُستثمر في دولة عربية شقيقة هو لبنة في جدار الحماية الجماعية، فالدول العربية ترتبط بتاريخ ومصير ودم واحد ومصالح اقتصادية متشابكة، فعندما تكون الشركات العراقية في السعودية، واللبنانية في الخليج، والمصرية في السودان، والخليجية في مصر، يصبح من الصعب على أي طرف أن يقدم على خطوات تهدد هذا النسيج الاقتصادي المترابط، بل الأكثر من ذلك أن هذه الاستثمارات تصبح حوافز قوية لتعزيز السلم المشترك وحل الخلافات بالحوار.المستقبل يفرض علينا جميعاً نحن العرب التعامل مع ملف التكامل الاقتصادي بجدية أكبر، خاصةً وأن العالم من حولنا يتكتل في تحالفات اقتصادية كبرى، بينما لاتزال التجارة البينية العربية عند مستويات جيدة لكن يمكن جعلها أفضل بكثير، وقد قطعنا شوطاً طويلاً بالفعل بفضل الرؤية الاستراتيجية الموحدة التي تجمع الدول العربية والتي تعتبر الاقتصاد العربي سوقاً واحداً، وتتعامل مع موارده كإرث مشترك، ولاشك في أن إنشاء سلاسل إنتاج عربية متكاملة، وتبادل الخبرات التقنية، وتوحيد الجهود في مجالات البحث العلمي وريادة الأعمال، كلها عناصر يمكن أن ترفع من قيمة الاستثمارات البينية وتجعلها قاطرة للتنمية الشاملة.